ظُهُورِها) مثل ضربه الله تعالى ، وليس المراد ظاهره وتفسيره أنّ الطريق المستقيم هو الطريق المعلوم ، وهو أن يستدلّ بالمعلوم على المظنون ، ولا ينعكس.
وإذا عرف هذا ، فنقول : ثبت بالدلائل أن للعالم صانعا ، مختارا ، حكيما ، وثبت أنّ الحكيم لا يفعل إلّا الصّواب البريء عن العبث والسّفه.
وإذا عرفنا ذلك ، وعرفنا أنّ اختلاف أحوال القمر في النّور من فعله علمنا أنّ فيه حكمة ومصلحة ، لأنّا علمنا أنّ الحكيم لا يفعل إلّا الحكمة ، واستدللنا بالمعلوم على المجهول ، فأمّا أن يستدلّ بعدم علمنا بالحكمة فيه على أنّ فاعله ليس بحكيم ، فهو استدلال باطل ؛ لأنّه استدلال بالمجهول على القدح في المعلوم ، وإذا عرف هذا ، فالمراد من قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) يعني : أنّكم لمّا لم تعلموا الحكمة في اختلاف نور القمر ، صرتم شاكّين في حكمة الخالق ، وقد أتيتم الشيء من غير طريق ه «إنّما البرّ ان تأتوا البيوت من أبوابها» وتستدلّوا بالمعلوم المتيقّن ، وهو حكمة خالقها على هذا المجهول ، وتقطعوا بأنّ فيه حكمة بالغة ، وإن كنتم لا تعلمونها. فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطّريق الصحيح ؛ وإتيانها من أبوابها كناية عن التّمسّك بالطّريق المستقيم ، وهذا طريق مشهور في الكناية ؛ فإنّ من أرشد غيره إلى الصّواب ، يقول له : ينبغي أن تأتي الأمر من بابه ، وفي ضدّه قالوا : ذهب إلى الشيء من غير بابه ، قال تعالى (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [آل عمران : ١٨٧] وقال عزّ من قائل : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) [هود : ٩٢] وهذا تأويل المتكلّمين.
قال ابن الخطيب (١) : ولا يصحّ تفسير هذه الآية ؛ لأنّ الوجه الأوّل يغيّر نسق الترتيب ، وكلام الله تعالى منزّه عن ذلك.
الوجه الثالث : قال أبو مسلم (٢) : إن المراد من هذه الآية ما كانوا يعملونه من النسيء ؛ فإنهم كانوا يخرجون الحجّ عن وقته الّذي عينه الله تعالى لهم ، فيحرّمون الحلال ، ويحلّون الحرام ، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثلا لمخالفة الواجب في الحجّ وشهوره.
قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)(١٩٣)
قوله تعالى : (فِي سَبِيلِ اللهِ) متعلّق ب «قاتلوا» على أحد معنيين : إمّا أن تقدّر
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ٥ / ١٠٨.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٠٨.