القاتل أولى ، وأيضا فقد يكون الكافر قاتلا ، فقد انضمّ إلى كفره قتل العمد والآية دلّت على قبول توبة كلّ كافر ، فدلّ على أنّ توبته ، إذا كان قاتلا مقبولة ؛ قال تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].
قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) يجوز في «حتّى» أن تكون بمعنى «كي» وهو الظاهر ، وأن تكون بمعنى «إلى» و «أن» مضمرة بعدها في الحالين ، و «تكون» هنا تامة ، و «فتنة» فاعل بها ، وأمّا (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) فيجوز أن تكون تامّة أيضا ، وهو الظاهر ، ويتعلّق «لله» بها ، وأن تكون ناقصة و «لله» الخبر ؛ فيتعلّق بمحذوف أي : كائنا لله تعالى.
فصل في المراد بالفتنة
قيل : المراد بالفتنة الشّرك والكفر ؛ قالوا : كانت فتنتهم أنّهم كانوا يرهبون أصحاب النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ بمكة ، حتى ذهبوا إلى الحبشة ، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء ؛ حتى ذهبوا إلى المدينة ، وكان غرضهم من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهم ، ويرجعوا كفّارا ، فأنزل الله ـ تبارك وتعالى ـ هذه الآية (١) ، والمعنى : قاتلوهم حتّى تظهروا عليهم ؛ فلا يفتنوكم عن دينكم ، ولا تقعوا في الشّرك (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي : الطّاعة ، والعبادة لله وحده ؛ لا يعبد شيء دونه ونظيره قوله تعالى (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] قال نافع : جاء رجل إلى ابن عمر في فتنة ابن الزّبير فقال ما يمنعك أن تخرج؟ فقال : يمنعني أنّ الله حرّم دم أخي ؛ ألّا تسمع ما ذكر الله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩] قال : يا ابن أخي ولأن أعتبر بهذه الآية ، ولا أقاتل أحبّ لي من أن أعتبر بالآية الأخرى الّتي يقول الله ـ عزوجل ـ فيها (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) [النساء : ٩٣] قال ألم يقل الله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)؟ قال : قد فعلنا على عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، ومجّد ، وعظّم ـ إذ كان الإسلام قليلا ، وكان الرّجل يفتن عن دينه ، إما يقتلونه ، أو يعذّبونه ؛ حتى كثر الإسلام ، فلن تكن فتنة وكان الدّين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوهم ، حتّى تكون فتنة ، ويكون الدّين لغير الله (٢).
وعن سعيد بن جبير ، قال : قال رجل لابن عمر كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال : هل تدري ما الفتنة؟! كان محمّد صلوات الله وسلامه عليه يقاتل المشركين وكان الدّخول عليهم فتنة ، وليس قتالكم كقتالهم على الملك.
__________________
(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» ٥ / ١١٣.
(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٣٢) كتاب التفسير باب (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) رقم (٤٥١٣ ، ٤٥١٤) عن نافع.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٧١ ـ ٣٧٢) وزاد نسبته لابن مردويه وأبي الشيخ عن ابن عمر.