إذا بالغوا في الأمر بالشّيء ، أبرزوه في صورة الخبر ؛ نحو : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) [البقرة : ٢٣٣] على ما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ.
فصل قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٩٤)
قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) مبتدأ ، خبره الجارّ بعده ، ولا بدّ من حذف مضاف ، تقديره : انتهاك حرمة الشّهر الحرام بانتهاك حرمة الشهر ، والألف واللام في الشّهر الأوّل والثّاني للعهد ؛ لأنّهما معلومان عند المخاطبين ؛ فإنّ الأول ذو القعدة من سنة سبع ، والثاني من سنة ستّ.
وقرىء (١). «والحرمات» بسكون الراء ، ويعزى للحسن وقد تقدّم عند قوله (فِي ظُلُماتٍ) [البقرة : ١٧] أنّ جمع «فعلة» بشروطها يجوز فيه ثلاثة أوجه : هذان الاثنان ، وفتح العين.
فصل في بيان سبب النّزول
في سبب نزول الآية ثلاثة أوجه :
أحدها : قال ابن عبّاس ومجاهد ، والضّحّاك ـ رضي الله عنهم ـ أنّ رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ، وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ خرج عام الحديبية للعمرة ، وذلك في ذي القعدة سنة ستّ من الهجرة ، فصدّه أهل مكة عن ذلك ثمّ صالحوه أن ينصرف ، ويعود في العام القابل ؛ ويتركوا له «مكّة» ثلاثة أيّام ؛ حتّى يقضي عمرته فانصرف رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ عامه ذلك ، ورجع في العام القابل في ذي القعدة سنة سبع ، ودخل مكّة ، واعتمر ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة يعني إنّك دخلت مكّة في الشهر الحرام ، والقوم كانوا صدّوك في السنة الماضية في هذا الشّهر ؛ فهذا الشهر الحرام ؛ بذلك الشهر الحرام (٢).
وثانيها : قال الحسن : إنّ الكفّار سمعوا أنّ الله تعالى نهى الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ عن المقاتلة في الأشهر الحرم ؛ وهو قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧] فأرادوا مقاتلته ، وظنّوا أنّه لا يقاتلهم في الأشهر الحرم ؛ فأنزل الله
__________________
(١) قرأ بها الحسن. انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٦٤ ، والبحر المحيط ٢ / ٧٧ ، والدر المصون ١ / ٤٨١ ، والشواذ ١٢ ، وإتحاف ١ / ٤٣٣.
(٢) تقدم.