وقوله : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) إشارة إلى قهر القوة الوهمية ، التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله ، وصفاته ، وأفعاله ، وأحكامه ، وأسمائه ، وهي الباعثة على منازعة الناس ، ومماراتهم ، والمخاصمة معهم في كل شيء ، فلمّا كان سبب الشّرّ محصورا في هذه الأمور الثلاثة ؛ لا جرم لم يذكر معها غيرها.
فصل
من الناس من عاب الاستدلال ، والبحث ، والنّظر ، والجدال ؛ واحتجّ بقوله تعالى : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) ، وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال ، ولو كان الجدال في الدين طاعة ، لما نهي عنه في الحج ، بل على ذلك التقدير ، يكون الاشتغال بالجدال ضمّ طاعة إلى طاعة ، فيكون أولى بالترغيب فيه. وأيضا قال تبارك وتعالى : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف : ٥٨] ، عابهم بكونهم من أهل الجدل ، فدلّ على أن الجدل مذموم ، وقال تبارك وتعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال : ٤٦] فنهى عن المنازعة.
وأمّا جمهور المتكلّمين فقالوا : الجدال في الدين طاعة عظيمة ؛ لقوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ، وحكى قول الكفّار لنوح ـ عليهالسلام ـ (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) [هود : ٣٢] ، ومعلوم أنّ ذلك الجدال إنما كان لتقرير أصول الدين ، فيحمل الجدال المذموم على الجدل في تقرير الباطل ، وطلب المال ، والجاه ، والجدال الممدوح على الجدل في تقرير الحقّ ، ودعوة الخلق إلى سبيل الله ، والذّبّ عن دين الله.
قوله : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) تقدّم الكلام على نظيرتها ، وهي : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) فكلّ ما قيل ثمّ ، يقال هنا. قال أبو البقاء (١) رحمهالله «ونزيد هنا وجها آخر : وهو أن يكون «من خير» في محلّ نصب نعتا لمصدر محذوف ، تقديره : وما تفعلوا فعلا كائنا من خير».
و «يعلمه» جزم على جواب الشّرط ، ولا بدّ من مجاز في الكلام : فإمّا أن يكون عبّر بالعلم عن المجازاة على فعل الخير ، كأنّه قيل : يجازيكم ، وإمّا أن تقدّر المجازاة بعد العلم ، أي : فيثيبه عليه.
وفي قوله : (وَما تَفْعَلُوا) التفات ؛ إذ هو خروج من غيبة في قوله : «فمن فرض» وحمل على معنى «من» إذ جمع الضمير ولم يفرده.
وقد خبط بعض المعربين ، فقال : «من خير» متعلّق بتفعلوا ، وهو في موضع
__________________
(١) ينظر : الإملاء ١ / ٨٦.