ل «فضلا» ، فيكون منصوب المحلّ ، متعلّقا بمحذوف. و «من» في الوجهين لابتداء الغاية ، لكن في الوجه الثاني تحتاج إلى حذف مضاف أي : فضلا كائنا من فضول ربكم.
فصل
قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا) يدلّ على أنّ شبهة قامت عندهم في تحريم التجارة من وجوه :
أحدها : أنّه تبارك وتعالى منع الجدال في الحجّ ، والتّجارة كثيرة الإفضاء إلى المنازعة في قلّة القيمة وكثرتها ؛ فوجب أن تكون التجارة محرّمة.
ثانيها : أنّ التجارة كانت محرمة في وقت الحج في الجاهلية ، وذلك شيء حسن ؛ لأن المشتغل بالحج مشتغل بخدمة الله تعالى ، فوجب ألّا يشوب هذا العمل بالأطماع الدّنيويّة.
وثالثها : أنّ المسلمين علموا أنّ كثيرا من المباحات صارت محرمة عليهم في الحج : كاللّبس ، والاصطياد ، والطّيب ، والمباشرة ، فغلب على ظنّهم أنّ الحجّ لمّا صار سببا لحرمة اللبس مع الحاجة إليه ، فأولى منه تحريم التجارة ؛ لقلة الاحتياج إليها.
ورابعها : عند الاشتغال بالصلاة يحرم الاشتغال بالتجارة ؛ قال تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة : ٩] فلهذا السبب ، بيّن الله تعالى ـ هاهنا ـ أنّ التجارة جائزة غير محرّمة.
فإذا عرف هذا ، فذكر المفسّرون في قوله : (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) وجهين :
الأوّل : أنّ المراد هو التجارة ؛ نظيره قوله تعالى : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [المزمل : ٢] وقوله : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣] ويدلّ عليه ما روى عطاء عن ابن مسعود وابن عباس وابن الزّبير أنّهم قرأوا (١) : «أن تبتغوا فضلا من ربّكم في مواسم الحجّ».
وقال ابن عباس : كان ناس من العرب يحترزون من التجارة في أيّام الحجّ ، وإذا دخل العشر ، بالغوا في ترك البيع والشّراء بالكلية ، وكانوا يسمّون التاجر في الحج الدّاجّ ، ويقولون : هؤلاء الدّاجّ ، وليسوا بالحاجّ. ومعنى الدّاجّ : المكتسب الملتقط ، وهو مشتقّ من الدّجاجة وبلغوا في الاحتراز عن الأعمال إلى أن امتنعوا من إغاثة الملهوف والضعيف وإطعام الجائع ؛ فأزال الله هذا الوهم وبيّن أنّه لا جناح في التجارة ، ولما كان ما قبل هذه الآية في أحكام الحج (٢) ، وما بعدها في الحج ، وهو قوله تعالى (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ)
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ١٠٣.
(٢) انظر : التفسير الكبير للفخر الرازي ٥ / ١٤٦.