فلماذا قال : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ).
قلنا لأنه أمر قبله بالسّعي ، ونهى عن البيع ، فقال : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) فنهى عن البيع بعد النّداء ، فلمّا قال بعده : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) ، كأنّه قال : إنّ المانع الذي منعكم من البيع قد زال ؛ فانتشروا في الأرض ، وابتغوا من فضل الله.
وأمّا قياس الحجّ على الصلاة ، فالفرق بينهما : أنّ الصلاة أعمالها متّصلة ، فلا يحلّ في أثنائها التشاغل بغيرها ، وأمّا أعمال الحج ، فهي متفرّقة بعضها عن بعض ، ففي خلالها لا يبقى المرء على الحكم الأول ، فتصير الصلاة عملا واحدا من أعمال الحج ، لا مجموع الأعمال ، وأيضا فقوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) تصريح بأنّ الابتغاء بعد انقضاء الحج.
فإن قيل : حكم الحاج باق في كل تلك الأوقات ؛ بدليل حرمة التطيب (١) واللّبس.
فالجواب : هذا قياس في مقابلة (٢) النص.
القول الثاني : قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر : المراد بقوله تعالى : (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجّا أعمالا أخر ، تكون موجبة لاستحقاق فضل الله ورحمته مثل إعانة الضّعيف ، وإغاثة الملهوف ، وإطعام الجائع (٣) ، واعترض عليه القاضي : بأنّ هذا واجب ، أو مندوب ، ولا يقال في مثله : لا جناح عليكم فيه ، إنّما يذكر هذا اللفظ في المباحات (٤).
والجواب : لا نسلّم أنّ هذا اللفظ لا يذكر إلّا في المباحات لقوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) [النساء : ١٠١] والقصر مندوب وكما قال تعالى (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] والطواف ركن في الحج ، وإنّما أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أنّ ضمّ سائر الطاعات إلى الحجّ ، يوقع خللا في الحج ، ونقصا ؛ فبيّن الله تعالى بقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أنّ الأمر ليس كذلك.
فصل
اتفقوا على أنّ التجارة إن أوقعت نقصا في الطاعة ، لم تكن مباحة ، وإن لم توقع نقصا في الطاعة ، كانت مباحة ، وتركها أولى ؛ بقوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : ٥] ، والإخلاص هو ألّا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة ، والحاصل أنّ الإذن في هذه التجارة جار مجرى الرّخص.
__________________
(١) في بي : التغليب.
(٢) في ب : معاملة.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٧.
(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٧.