وعن عبد الله بن السّائب ؛ أنّه سمع النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول فيما بين ركن بني جمح والرّكن الأسود (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ)(١).
فصل
قال ابن الخطيب (٢) : اعلم أن منشأ البحث في الآية الكريمة أنّه لو قيل : آتنا في الدنيا الحسنة وفي الآخرة الحسنة ، لكان ذلك متناولا لكل الحسنات ، ولكنه قال : (آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) ، وهذا نكرة في محلّ الإثبات ، فلا يتناول إلّا حسنة واحدة ؛ فلذلك اختلف المفسّرون ، فكل واحد منهم حمل اللّفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة ، وهذا بناء منه على أنّ الفرد المعرّف بالألف واللّام يعمّ (٣) ، وقد اختار في «المحصول» خلافه.
__________________
(١) أخرجه أبو داود كتاب الحج باب : الدعاء في الطواف (١٨٩٢) والنسائي في «الكبرى» كما في «تحفة الأشراف» (٤ / ٣٤٧) وأحمد (٣ / ٤١١) والشافعي في «مسنده» ص ١٢٧ والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ١٢٨) رقم (١٩١٥) وابن حبان (١٠٩) والبيهقي (٥ / ٨٤) والحاكم (١ / ٤٥٥) وعبد الرزاق (٨٩٦٣) وابن أبي شيبة (٤ / ١٠٨ ، ١٠ / ٣٦٨) وابن سعد (٢ / ١ / ١٢٩) وابن الجارود في «المنتقى» (٤٥٦).
وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦١.
(٣) اسم الجنس بأقسامه فإذا دخلت عليه الألف واللام سواء الاسم ؛ كالذهب ، والفضة ، أو الصفة المشتقة ؛ كالضارب ، والمضروب ، والقائم ، والسارق ، والسارقة ، فإن كان للعهد ، فخاص ، سواء الذّكري ؛ كقوله تعالى : كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً. فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [سورة المزمل : ١٥ ، ١٦] أو الذّهني ؛ كقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) [سورة الفرقان : ٢٧] ، فإن اللّام في الرسول للعهد ، وهو النبي صلىاللهعليهوسلم ، وإن لم يجر له ذكر في اللفظ ، وإن لم يرد به معهود ، فاختلفوا فيه على أقوال :
أحدها : أنه يفيد استغراق الجنس ، ونقل عن نص الشافعي في «الرسالة» ، و «البويطي» ، ونقله أصحابه عنه في قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) [سورة البقرة : ٢٧٥] ، وهو كذلك في «الأم» من رواية الربيع ؛ ويدل عليه قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة المنافقون : ٨] إنكارا على قول عبد الله بن أبيّ (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [سورة المنافقين : ٨] فدلّ على أن اسم الجنس المعرّف يعمّ ، ولو لا ذلك ، لما تطابق ، والفقهاء كالمجمعين عليه في استدلالهم بنحو (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) [سورة المائدة : ٣٨] ، (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) [سورة النور : ٢] ، وهو الحق ؛ لأن الجنس معلوم قبل دخول الألف واللام ، فإذا دخلتا ولا معهود ، فلو لم يجعله للاستغراق ، لم يفد شيئا جديدا.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني ، وسليم الرّازي في «التقريب» : «إنه المذهب» ونقله الأستاد أبو منصور عن القائلين بالصيغ. قال القاضي عبد الوهاب : وهو قول جمهور الأصوليين ، وكافة الفقهاء ، وقال به أبو عبد الله الجرجاني ، ونسبه لأصحابه الحنفية. وقال القرطبي : إنه مذهب مالك وغيره من الفقهاء. وقال الباجي : «إنه الصحيح» ، وبه قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وابن برهان ، وابن السّمعاني ، والجبّائي ، ونصره عبد الجبار ، وصححه الكيا الطبري ، وابن الحاجب. ونقله الآمدي عن الشافعي والأكثرين ، ونقله الإمام فخر الدين عن المبرّد والفقهاء. ـ