الثاني : أنّ المحاسبة عبارة عن المجازاة ؛ قال ـ تبارك وتعالى ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) [الطلاق : ٨] ، ووجه المجاز : أنّ الحساب سبب للأخذ والعطاء ، وإطلاق اسم السّبب على المسبّب جائز ؛ فحسن إطلاق لفظ الحساب على المجازاة.
الثالث : أنّه تعالى يكلّم العباد في أحوال أعمالهم ، وكيفيّة ما لها من الثّواب والعقاب ، فمن قال : إن كلامه ليس بحرف ولا صوت ، قال : إنّه تعالى يخلق في أذن المكلّف سمعا يسمع به كلامه القديم ؛ كما أنّه يخلق في عينيه رؤية يرى بها ذاته القديمة ، ومن قال : إنه صوت ، قال : إنّه ـ تعالى ـ يخلق كلاما يسمعه كلّ مكلّف ، إمّا بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كلّ واحد منهم ، أو في جسم يقرب من أذنه ، بحيث لا تبلغ قوّة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلّف به ، والله أعلم.
قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ)(٢٠٦)
قوله : «معدودات» : صفة لأيام ، وقد تقدّم أن صفة ما لا يعقل يطّرد جمعها بالألف والتاء ، وقد ذكر أبو البقاء هنا سؤالا ؛ فقال : إن قيل «الأيّام» واحدها «يوم» و «المعدودات» واحدتها «معدودة» ، واليوم لا يوصف بمعدودة ، لأنّ الصفة هنا مؤنثة ، والموصوف مذكّر ، وإنما الوجه أن يقال : «أيّام معدودة» فتصف الجمع بالمؤنث ، فالجواب أنه أجرى «معدودات» على لفظ «أيّام» ، وقابل الجمع بالجمع مجازا ، والأصل «معدودة» ؛ كما قال : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] ، ولو قيل : إن الأيام تشتمل على السّاعات ، والساعة مؤنّثة ، فجاء الجمع على معنى ساعات الأيّام ، وفيه تنبيه على الأمر بالذّكر في كلّ ساعات هذه الأيام ، أو في معظمها ، لكان جوابا سديدا ، ونظير ذلك الشهر والصّيف والشتاء ؛ فإنها يجاب بها عن «كم» ، و «كم» إنما يجاب عنها بالعدد ، وألفاظ هذه الأشياء ليست عددا ، وإنما هي أسماء المعدودات ، فكانت جوابا من هذا الوجه. قال شهاب الدين وهذا تطويل من غير فائدة ، وقوله «مفرد معدودات معدودة بالتأنيث» ممنوع ، بل مفردها «معدود» بالتذكير ، ولا يضرّ جمعه بالألف والتاء ، إذ الجمع بالألف والتاء لا يستدعي تأنيث المفرد ؛ ألا ترى إلى قولهم : حمّامات وسجلّات وسرادقات.