واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشّمس ، ورماها من اللّيل أو من الغد ، هل يلزمه دم أم لا؟
فصل
المبيت بمنى ليالي منى (١) واجب ؛ لرمي الجمار في كلّ يوم بعد الزّوال إحدى وعشرين حصاة ، عند كل جمرة سبع حصيات ، ويرخّص في ترك المبيت لرعاء الإبل وأهل سقاية الحاجّ ، ثم من رمى اليوم الثاني من أيام التّشريق ، وأراد أن ينفر ويدع المبيت في اللّيلة الثّالية ، ورمى يومها ، فله ذلك ؛ بشرط أن ينفر قبل غروب الشمس ، فإن غربت الشمس وهو بمنى ، لزمه المبيت بها والرّمي من غد ، هذا مذهب الشّافعي وأحمد ، وهو قول أكثر التّابعين.
وقال أبو حنيفة : يجوز أن ينفر ما لم يطلع النحر ؛ لأن وقت الرّمي لم يدخل.
فصل
إذا ترك الرّمي ، فذكره بعدما صدر وهو بمكّة ، بعد ما خرج منها ، فعليه الهدي ، وسواء ترك الجمار كلّها ، أو جمرة منها ، أو حصاة من جمرة ، حتى خرجت أيّام منى فعليه دم ، وإن ترك جمرة واحدة ، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاع ، إلى أن يبلغ دما ، إلّا جمرة العقبة فعليه دم.
__________________
(١) والقول بوجوب المبيت ب «منى» هو الأصح من قولي الشافعي ، وعليه النووي ، وبه قال «مالك» ، و «أحمد» ، والقول الثاني : إنه سنّة ، وعليه «الرافعي» ، وبه قال «أبو حنيفة».
ويبتدىء حدّ «منى» من «وادي محسّر» ، وينتهي إلى أوّل العقبة.
والحكمة في المبيت بمنى هي إعلان شوكة الإسلام ، وإظهار عزه وعظمته ؛ فإن الإسلام في حاجة شديدة إلى مثل هذا الاجتماع ، وخصوصا في مثل هذه الظروف العصيبة التي يجتازها المسلمون في مشرق الأرض ومغربها ؛ ليتمكنوا في خلال هذه الأيام من البحث في شئونهم والمعاهدات التي يعقدونها ، ومعالجة أمراض الضعف التي تفشت في أممهم ، وبذاك تقوى الروابط الأخوية ، وتتحد صفوف المسلمين ، وتفض الخصومات والمنازعات التي دبّت بين أمم الإسلام ، هذا ما عدا التعارف والتحابب والتآلف ، وازدياد إغداق الخيرات على أهل الحجاز طول هذه المدة ، وإنما كان ب «منى» لأن العرب كانوا في الجاهلية قد اتخذوها في زمن الحجّ متسوّقا ، تروج فيه بضاعتهم ؛ لحاجتهم الشديدة لذلك ، ولم يجعلوا ذلك ب «مكة» ؛ لأنهم علموا أنها تضيق بمن في ذلك الموسم ؛ ولأن في تخصيص بعض القبائل ب «منى» وهو فضاء واسعة الأرجاء ؛ ايغارا لصدورهم ، ثم استتبع ذلك ما هو ديدنهم من التفاخر والتكاثر ، فكانت كل قبيلة تظهر به ما في طاقتها من القوّة والمنعة ؛ ليسير ذلك بسير الركبان إلى أقاصي الأقطار ، فلما جاء الإسلام ورأى الشارع الحاجة إلى مثل هذا الاجتماع لتعلم فيه قوته ، وتظهر فيه شوكته ، فيعلو قدره ، ويسمو ذكره ، لم يكن بدّ من جعله في ذلك المكان ، وتطهيره ممّا كان به في الجاهلية ؛ من التفاخر ، والتكاثر بالأهل والعشيرة ، لما ينجم عن بقائهما من الشرّ والتفريق الذين جاء الإسلام بخلافهما.