لأنها تمنع ما يقتضيه ، و «كفّة الميزان» لجمعها الموزون ، ويقال : كففت فلانا عن السّوء ، أي : منعته ، ورجل مكفوف ، أي : كفّ بصره من أن يبصر ، والكفّة ـ بالضّمّ ـ لكل مستطيل ، وبالكسر ، لكلّ مستدير.
وقيل : «كافة» مصدر كالعاقبة والعافية. وكافة وقاطبة ممّا لزم نصبهما على الحال ، فإخراجهما عن ذلك لحن.
فصل
لمّا بيّن الله ـ تعالى ـ أقسام النّاس ، وأنهم ينقسمون إلى مؤمن ، وكافر ، ومنافق قال هاهنا : كونوا على ملّة واحدة ، على الإسلام ، واثبتوا عليه.
قال ابن الخطيب (١) : حمل أكثر المفسرين السّلم على الإسلام ، وفيه إشكال ؛ لأنه يصير التقدير : يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في الإسلام ، والإيمان هو الإسلام ، ومعلوم أنّ ذلك لا يجوز ، فلهذا ذكر المفسرون وجوها :
أحدها : أنّ المراد بالآية المنافقون ، والتقدير : يا أيّها الذي آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكلّيتكم في الإسلام ، ولا تتّبعوا خطوات الشيطان ، أي آثار تزيينه ، وغروره في الإقامة على النّفاق ، واحتجوا على هذه بالآية ، فهذا التأويل على أنّ هذه الآية إنّما وردت عقيب ما مضى من ذكر المنافقين وهو قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) «الآية» فلمّا وصفهم بما ذكر ، دعاهم في هذه الآية إلى الإيمان بالقلب ، وترك النفاق.
وثانيها : روي أنّ هذه الآية نزلت في طائفة من مسلمي أهل الكتاب ك «عبد الله ابن سلام» وأصحابه ، وذلك لأنهم كانوا يعظّمون السّبت ، ويكرهون لحمان الإبل ، بعدما أسلموا وقالوا : يا رسول الله : إنّ التوراة كتاب الله ، فدعنا فلنقم بها في صلاتنا باللّيل ، فأمرهم الله بهذه الآية أن يدخلوا في السّلم كافّة (٢) [أي : في شرائع الإسلام كافة](٣) ولا يتمسّكوا بشيء من أحكام التوراة ، اعتقادا له وعملا به ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان في التمسّك بأحكام التوراة بعد أن عرفتم أنها صارت منسوخة ، وقائل هذا القول جعل «كافّة» من وصف «السّلم» ، كأنه قيل : ادخلوا في جميع شعائر الإسلام اعتقادا وعملا.
وثالثها : أنّ هذا الخطاب لأهل الكتاب الّذين لم يؤمنوا بالنبي ـ عليهالسلام ـ يعني : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). أي : بالكتاب المتقدم (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) ، أي : آمنوا بجميع أنبيائه وكتبهم ، وبمحمّد ، وكتابه على التمام ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان في
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٧٦.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وعزاه للطبري عن عكرمة.
(٣) سقط في ب.