مشروطا بذلك النهي والتحذير ، فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافيا للنهي والتحذير.
وثالثها : أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذاك في العقل ، فيكون الغرض منه التأكيد ، ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعدما قرّرها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل ، فأي بعد في مثل هذا الغرض هاهنا.
ورابعها : قوله تعالى في حق الملائكة : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩] مع أنه ـ تعالى ـ أخبر عن عصمتهم في قوله : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [النحل : ٥٠] وقال في حق محمد صلىاللهعليهوسلم : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥].
والإجماع على أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك ، وما مال إليه ، وقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ١] وقال : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧] ، وقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤].
فثبت بما قلنا أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ منهي عن ذلك وأن غيره أيضا منهي عنه ؛ لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواصّ الرسول عليه الصلاة والسلام.
بقي أن يقال : فلم خصه بالنهي دون غيره؟
فنقول فيه وجوه :
أحدها : أن كل من كان نعم الله عليه أكثر ، كان صدور الذنب منه أقبح ، فكان أولى بالتخصيص.
وثانيها : أن مزيد الحبّ يقتضي التخصيص بمزيد التحذير.
وثالثها : أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم ، فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده ، فإنه يكون منبها بذلك على عظم ذلك الفعل إن ارتكبوه ، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية.
القول الثاني : أن قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) ليس المراد منه إن اتبع أهواءهم في كل الأمور ، فلعله ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم ، مثل ترك المخاشنة في القول والغلظة في الكلام ، طمعا منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في استمالتهم ، فنهاه الله ـ تعالى ـ عن ذلك القدر أيضا ، وآيسه منهم بالكلية على ما قال : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٤].
القول الثالث : أن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره ، وهذا كما أنك إذا عاتبت [إنسانا أساء عبده إلى عبدك فتقول له : لو فعلت مرة أخرى مثل](١) هذا الفعل لعاقبتك عليه عقابا شديدا ، فكان الغرض منه زجر العبد.
__________________
(١) في أ : بأنني عبد إنسان ، فيقول لسيده : إن فعلت.