وثانيها : قال الزّجّاج (١) : إنّ تأنيث الحياة ليس بحقيقي ؛ لأنّ معنى الحياة والعيش والبقاء واحد ، فكأنه قال : «زيّن للّذين كفروا البقاء».
وثالثها : قال ابن الأنباري (٢) : إنما لم يقل زيّنت ؛ لأنه فصل بين «زيّن» وبين الحياة الدنيا بقوله : «للذين كفروا» ، وإذا فصل بين فعل المؤنث ، وبين الاسم بفاصل حسن تذكير الفعل ؛ لأنّ الفاصل يغني عن تاء التأنيث ، وقرأ مجاهد وأبو حيوة : «زيّن» مبنيا للفاعل ، و «الحياة» مفعول ، والفاعل هو الله تعالى عند الأكثرين ، وعند الزجاج والمعتزلة يقولون : إنه الشيطان.
وقوله : «يسخرون» يحتمل أن يكون من باب عطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية ، لا من باب عطف الفعل وحده على فعل آخر ، فيكون من عطف المفردات ؛ لعدم اتّحاد الزمان.
ويحتمل أن يكون «يسخرون» خبر مبتدأ محذوف ، أي : وهم يسخرون ، فيكون مستأنفا ، وهو من عطف الجملة الاسمية على الفعلية. وجيء بقوله : «زيّن» ماضيا ؛ دلالة على أنّ ذلك قد وقع ، وفرغ منه ، وبقوله : «ويسخرون» مضارعا ؛ دلالة على التّجدّد ، والحدوث.
قوله : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ) مبتدأ وخبر ، و «فوق» هنا تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون ظرف مكان على حقيقتها ؛ لأنّ المتقين في أعلى علّيّين ، والكافرين في أسفل السّافلين.
والثاني : أن تكون الفوقية مجازا : إمّا بالنسبة إلى نعيم المؤمنين في الآخرة ، ونعيم الكافرين في الدنيا. وإمّا أنّ حجة المؤمنين في القيامة فوق حجّة الكافرين ، وإمّا أن سخرية المؤمنين لهم في الآخرة ، فوق سخرية الكفار لهم في الدنيا.
و «يوم» منصوب بالاستقرار الذي تعلّق به «فوقهم» وقوله : (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) لتبيين أنّ السعادة الكبرى لا تحصل إلّا للمؤمن التّقيّ.
فصل
قال ابن عبّاس (٣) : نزلت في كفّار قريش ، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعبد الله بن مسعود ، وعمّار ، وخبّاب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعامر بن فهيرة ، وأبي عبيدة بن الجرّاح ، وصهيب ، وبلال ، بسبب ما كانوا فيه من الفقر ، والصّبر على أنواع البلاء ، مع ما كان الكفّار فيه من النّعيم ، والرّاحة ، وبسط الرّزق.
__________________
(١) ينظر : الرازي ٦ / ٥.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥.
(٣) تقدم.