فصل
يحتمل أن يكون المراد منه : ما يعطي في الدنيا لعبيده المؤمنين والكافرين ، ويحتمل أن يكون المراد منه : رزق الآخرة ، فإن حملناه على رزق الآخرة ، كان مختصا بالمؤمنين ، وهو من وجوه :
أحدها : أنّ الله يرزقهم بغير حساب ، أي : رزقا واسعا رغدا لا فناء له ؛ لأنّ كلّ ما دخل تحت الحساب ، فهو متناه.
وثانيها : أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب ، وبعضها تفضل ؛ كما قال : (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ١٧٣] فالفضل منه بلا حساب.
وثالثها : أنه لا يخاف نفادها عنده ؛ فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه ؛ لأن المعطي إنّما يحاسب ، ليعلم مقدار ما يعطى وما يبقى كي لا يتجاوز في عطاياه إلى ما لا يجحف به ، والله عالم غني ، لا نهاية لمقدوراته.
ورابعها : «بغير حساب» ، أي : بغير استحقاق ؛ يقال : لفلان على فلان حساب ؛ إذا كان له عليه حق ، وهذا يدلّ على أنّه لا يستحق أحد عليه شيئا ، وليس لأحد معه حساب ، بل كلّ ما أعطاه ، فهو مجرّد فضل وإحسان ، لا بسبب استحقاق.
وخامسها : «بغير حساب» ، أي : يعطي زائدا على الكفاية ؛ يقال : فلان ينفق بغير حساب ، أي : يعطي كثيرا ؛ لأن ما دخله الحساب فهو قليل.
وهذه الوجوه كلّها محتملة ، وعطايا الله بها منتظمة ، فيجوز أن يكون الكلّ مرادا والله أعلم.
فإن قيل : قد قال الله ـ تعالى ـ في صفة المتقين ، وما يصل إليهم : (عَطاءً حِساباً) [النبأ : ٣٦] على المستحقّ بحسب الوعد ؛ كما هو قولنا ، وبحسب الاستحقاق ؛ كما هو قول المعتزلة ، فالسؤال : وهذا كالمناقض لهذه الآية.
فالجواب : من حمل قوله : «بغير حساب» على التفضّل ، وحمل قوله : «عطاء حسابا» على المستحق بحسب الوعد ، كما هو قولنا ، وبحسب الاستحقاق ، كما هو قول المعتزلة ، فالسؤال زائل ، ومن حمل قوله : «بغير حساب» على سائر الوجوه ، فله أن يقول : إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقات ، فصحّ من هذا الوجه أن يوصف بكونه : «عطاء حسابا» فلا تناقض ، وإن حملناه على أرزاق الدنيا ، ففيه وجوه :
أحدها ، وهو أليق بنظم الآية : أنّ الكفار كان يسخرون من فقراء المسلمين ؛ لأنهم كانوا يستدلّون بحصول السعادات الدنيوية ، على أنهم على الحقّ ، وبحرمان فقراء المسلمين على أنهم على الباطل ؛ فأبطل تعالى استدلالهم بقوله : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) يعني : يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئا عن كون