الآية نزلت في اليهود ؛ فقوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي : كان الذين آمنوا بموسى أمّة واحدة على دين واحد ، ثم اختلفوا بسبب البغي ، والحسد ؛ فبعث الله النبيّين ، وهم الذين جاءوا بعد موسى ـ عليهالسلام ـ وأنزل معهم الكتاب كما بعث الزبور إلى داود ، والإنجيل إلى عيسى ، والفرقان إلى محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لتكون تلك الكتب حاكمة عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها ، وهذا القول مطابق لنظم الآية ، وموافق لما قبلها وما بعدها ، وليس فيه إشكال إلّا أنّ تخصيص لفظ الناس بقوم معينين خلاف الظّاهر ، ويعتذر عنه بأن الألف واللّام كما تكون للاستغراق ، فقد تكون أيضا للعهد.
فصل في بيان لفظة «كان»
قال القرطبيّ (١) : لفظة «كان» على هذه الأقوال على بابها من المضيّ المنقضي ، وكان من قدّر الناس في الآية مؤمنين قدّر في الكلام : فاختلفوا ، فبعث الله ، ويدلّ على هذا الحذف قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) وكل من قدّرهم كفّارا كانت بعثة النبيين إليهم ، ويحتمل أن تكون «كان» للثّبوت ، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله : أنهم أمة واحدة من خلوّهم عن الشرائع ، وجهلهم بالحقائق لو لا أنّ الله تعالى منّ عليهم بالرسل ؛ تفضلا منه ؛ فعلى هذا لا تختصّ «كان» بالمضيّ فقط ، بل يكون معناها كقوله تعالى (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦] وقوله : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) قال بعض المفسرين (٢) : وجملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفا ، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، والمذكور في القرآن بأسمائهم : ثمانية عشر نبيّا.
قوله تعالى : (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) حالان من «النّبيّين». قيل : وهي حال مقارنة ؛ لأنّ بعثهم كان وقت البشارة والنّذار وفيه نظر ؛ لأنّ البشارة والنّذارة [بعد البعث. والظاهر أنها حال مقدّرة ، وقد تقدّم معنى البشارة والنذارة] في قوله : (أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) [يونس : ٢].
وقوله : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ) هذا الظرف فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلّق بأنزل. وهذا لا بدّ فيه من تأويل ؛ وذلك أنّه يلزم من تعلّقه بأنزل أن يكون النبيون مصاحبين للكتاب في الإنزال ، وهم لا يوصفون بذلك ؛ لعدمه فيهم.
وتأويله : أنّ المراد بالإنزال الإرسال ، لأنّه مسبّب عنه ، كأنّه قيل : وأرسل معهم الكتاب فتصحّ مشاركتهم له في الإنزال بهذا التّأويل.
والثاني : أن يتعلّق بمحذوف ، على أنه حال من الكتاب ، وتكون حالا مقدرة ، أي :
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٢ ـ ٢٣.
(٢) ينظر : القرطبي ٣ / ٢٣.