وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) فما فائدة هذا التكرار؟ فيه أقوال :
أحدها : أن الأحوال ثلاثة :
أولها : أن يكون الإنسان في المسجد الحرام.
وثانيها : أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد.
وثالثها : أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض.
فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى ، والثانية على الثانية ، والثالثة على الثالثة ؛ لأنه قد يتوهّم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للبعد ، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله ـ تعالى ـ هذه الآيات.
والجواب : أنه علق بها كل مرة فائدة زائدة ، ففي الأولى بين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وأمر هذه القبلة حقّ ؛ لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل.
وفي الثانية بين أنه ـ تعالى ـ يشهد أن ذلك حقّ ، وشهادة الله بكونه حقّا مغايرة لعلم أهل الكتاب [حقّا].
وفي الثالثة بين [فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجّة](١) ، فلما اختلفت هذه الفوائد
حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة في المرات واحدة من هذه الفوائد ، ونظيره قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة : ٧٩].
وثالثها : لما قال في الأولى : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فربما توهم متوهم أن هذا التحويل لمجرد رضاه فأزال هذا الوهم الفاسد بقوله عزوجل ثانيا : (وَمِنْ حَيْثُ) ما (خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [وإنّه للحقّ من ربّك» أي : إن التحويل ليس لمجرد رضاك ، بل لأجل أنه الحق الذي لا محيد عنه ، فاستقبالها ليس لمجرد الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي يقيمون عليها بمجرّد الهوى والميل.
ثم قال تعالى ثالثا : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)](٢) والمراد منه الدوام على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات ، وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخا.
ورابعها : أنه قرن كل آية بمعنى ، فقرن الأولى وهي القبلة التي يرضاها ويحبّها بالقبلة التي كانوا يحبونها ، وهي قبلة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقرن الآية الثانية
__________________
(١) في أ : العلة ، وهي قطع حجة اليهود.
(٢) سقط في ب.