قال أصحابنا : هذه الهداية : إما أن يكون المراد منها الدعوة ، أو الدلالة ، أو تحصيل العلم فيه ، والأولان باطلان ؛ لأنهما عامّان لجميع المكلفين ، فوجب حمله على الوجه الثالث ، وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى.
قوله تعال : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١٤٣)
الكاف في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ) فيها الوجهان المشهوران كما تقدم ذلك غير مرّة : إما النصب على النعت ، أو على الحال من المصدر المحذوف.
والتقدير : وكذلك جعلناكم أمّة وسطا جعلا مثل ذلك ، ولكن المشار إليه ب «ذلك» غير مذكور فيما تقدم ، وإنما تقدم ما يدلّ عليه. واختلفوا في «ذلك» على خمسة أوجه :
أحدها : أن المشار إليه هو الهدى المدلول عليه بقوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).
والتقدير : جعلناكم أمة وسطا مثل ما هديناكم.
الثاني : أنه الجعل ، والتقدير : جعلناكم أمة وسطا مثل ذلك الجعل القريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية.
الثالث : قيل : المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسّطة جعلناكم أمة وسطا.
الرابع : قيل : المعنى كما جعلنا القبلة وسط الأرض جعلناكم أمة وسطا.
الخامس ـ وهو أبعدها ـ أن المشار إليه قوله : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) [البقرة : ١٣٠] أي : مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطا.
[قال ابن الخطيب : ويحتمل عندي أن يكون التقدير : ولله المشرق والمغرب ، فهذه الجهات بعد استوائها لكونها ملكا لله تعالى ، خصّ بعضها بمزيد الشرف والتكريم ، بأن جعله قبلة فضلا منه ، وإحسانا ؛ فكذا العباد كلهم يشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة ، فضلا منه وإحسانا لا وجوبا.
وفيه وجه آخر : وهو أنه قد يذكر ضمير الشيء ، وإن لم يكن المضمر مذكورا إذا كان المضمر مشهورا معروفا ، كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] لأن المعروف عند كل أحد أنه ـ سبحانه وتعالى ـ هو القادر على إعزاز من يشاء من خلقه ، وإذلال من يشاء ، فقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي : ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطا](١).
__________________
(١) سقط في ب.