فظهر من هذا أن العامّ إنّما يحسن تخصيصه ، إذا كان الباقي بعد التّخصيص أكثر ؛ لأن العادة جارية بإطلاق لفظ الكلّ على الغالب ؛ لأنّه يقال في الثّوب : إنه أسود إذا كان الغالب فيه السّواد وإن حصل فيه بياض قليل ، فأمّا إذا كان الغالب عليه البياض وكان السّواد قليلا ، كان إطلاق لفظ السّواد عليه كذبا ؛ فثبت شرط تخصيص العامّ ؛ أن يكون الباقي بعد التّخصيص أكثر (١) ، وهذه الآية ليست كذلك ، فإنه خرج
__________________
(١) اختلف في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص على مذاهب :
أحدها : أنه لا بد من بقاء جمع كثير ، ونقله الرازي والآمدي عن أبي الحسين البصري ، وصححه الرازي. وقال الآمدي : وبه قال أكثر أصحابنا ، وإليه مال إمام الحرمين ، ونقله ابن برهان عن المعتزلة. وقال الأصفهاني : ما نسبه الآمدي إلى الجمهور ليس بجيد ، نعم اختاره الغزالي والرازي. واختلف في ذلك الكثير. فقال أكثرهم : لا بد أن يعرف من مدلول اللفظ العام قبل التخصيص. وقال البيضاوي : لا بد أن يكون غير محصور. وقال ابن برهان في «الأوسط» : لم يحدّوا الكثرة هنا ؛ بل قالوا : تعرف بالقرائن ، وأغرب بعضهم ، فادّعى أنه ليس المراد بالكثير هنا الكثير عددا ؛ بل الكثير وقوعا ، والغالب وجودا بحيث يقرب أنه مما خطر بالبال عند ذكر اعتبار لفظ العام.
وقال آخرون : شرطه أن يكون الباقي معظم الأمر إما في الكثرة وإما في الاعتبار ؛ أما في الكثرة فكما إذا قلت : كل إنسان مصاب ، وكل محسن مشكور ، فإنه وإن كان في الناس من لم يصب بمصيبة إلا أنه يحدث قائل ذلك ، ويحسن أن لا يقدح في كلامه. وأما في الاعتبار فكما إذا قلت : خرج الناس كلهم للقاء الملك ، فإن المراد من له اعتبار ، وإن كان أكثر الناس لم يخرجوا.
والثاني : أن العام إن كان ظاهرا مفردا ك «من» و «الألف واللام» نحو : اقتل من في الدار ، واقطع السارق ، جاز التخصيص إلى أقل المراتب : وهو واحد ، لأن الاسم يصلح لهما جميعا. وإن كان بلفظ الجمع كالمسلمين جاز إلى أقل الجمع ، وذلك إما ثلاثة أو اثنان على الخلاف. قاله القفّال الشاشي.
كذا رأيته في كتابه في نسخة قديمة ، واعتمده ابن الصّبّاغ في «العدة» أيضا ، فاضبط ذلك ، فقد زل الناقلون عنه في هذه المسألة. فنقل ابن برهان في «الأوسط» عنه جواز الرد إلى الواحد مطلقا ، ونقل القاضي أبو الطيب في «شرح الكافية» وابن السّمعاني في «القواطع» عنه جواز الرد إلى ثلاثة ، ولا يجوز إلى ما دونها إلا بما يجوز به النسخ ، لكن ظاهر كلام القاضي أن «من ، وما» محل وفاق. فإنه قال : لنا أن كل ما جاز تخصيصه إلى ثلاثة ، جاز تخصيصه إلى ما دونها «كمن ، وما» انتهى. وبذلك صرح الشيخ أبو إسحق الإسفرايني ، فقال : لا خلاف في جواز التخصيص إلى واحد فيما إذا لم تكن الصيغة جمعا ، «كمن ، وما ، والمفرد المحلى بالألف واللام».
وحكى القاضي عبد الوهاب عنه أنه ألحق أسماء الأجناس : كالسارق والسارقة ، بالجمع المعرف في امتناع رده إلى الواحد كذلك ؛ والفرق بين الصيغتين أن ألفاظ الجموع موضوعة للجميع ، ففي التخصيص إلى الواحد إخراج عن الموضوع ، ولا كذلك «من ، وما ، والمفرد المحلى بالألف واللام» ، لتناولها الواحد والإثنين.
قال الأصفهاني : وينبغي أن يلحق «أيّ» «بمن ، وما» قلت : وهو كذلك ، لوجود العلة ، وبه صرح إلكيا الطبري. وقال بعض المتأخرين : ما أظن القفّال يقول به في كل تخصيص ، فإنه لا يخالف في صحة استثناء الأكثر إلى الواحد ، بل الظاهر قصر قوله على ما عدا الاستثناء من المخصّصات ، بدليل احتجاج بعض أصحابنا عليه بقول القائل : عليّ عشرة إلا تسعة ، ويحتمل أن يعم الخلاف إلا أن الظاهر خلافه من المنقول عنه. ـ