الواجب بعد ذلك : إمّا إمساك بمعروف ، وهو أن يراجعها لا على قصد المضارّة ، بل على قصد الإصلاح ، وإما تسريح بإحسان ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يوقع عليها الطّلقة الثّالثة ، روي أنّه لمّا نزل قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، قيل له ـ عليه الصلاة والسلام ـ : فأين الثّالثة؟ قال عليه الصّلاة والسّلام ـ : «هو قوله تسريح بإحسان» (١).
__________________
والمراجعة المعادة ، يقال : راجعه الكلام وراجع امرأته.
فهي لغة : المرة من الرجوع. وفي الشرع : رد المرأة إلى النكاح من طلاق غير بائن في العدة على وجه مخصوص.
وحكمة التشريع التي يمكن أن تتعرفها العقول ، وتصل إليها المدارك في شرع الله للرجعة بعد وقوع الطلاق : هي أن الزّوج الذي أقدم على ذلك الحلال المبغوض ، ربّما يكون قد استوثقت بينه وبين مطلّقته آصرة من المودة والإيلاف ، فقد أفضى بعضهم إلى بعض ، وكانت لباسا له ؛ كما كان لباسا لها ، وربّما احتمل العلوق ، أو يكون قد خرج من بينهم ذرية ضعاف يخاف عليهم الضياع والشتات.
ولا يغيب عن البال أن الأبناء والذرية الذين يتربّون في غير أحضان الآباء والأمهات معا ، تكلأ لهم أعينهم ، ويحوطهم الحفظ من السّقوط في حمأة التّشرد ، لا شك يكونون شرّا مستطيرا ، ونواة سيّئة في المجتمع الذي يعيشون فيه ، وإننا لا ننكر أن الأم من الضّعف ، وعدم القدرة على صيانة الولد خارج المنزل ، ما الله عالم به ، وربما دفعها فرط الشّفقة عليه ، وشدة الحنان والحدب عليه إلى التغاضي عن سيئه ، وقد لا تدري ما العاقبة الوخيمة وما نتيجة هذا التّفريط.
وكثيرا ما يكنّ جاهلات لا يعرفن من أمور الحياة وشئون تربية الأبناء إلّا كونهم آلة تقوم بتنظيف المسكن وإنضاج الطعام وغسل الملابس ؛ ولا تعرف لابنها إلا أن تلقمه ثديها رضيعا ، وتقدم إليه كسر الخبر والطّعام بعد فطامه وفي يفاعه.
وأيضا قد يتزوّج كل من الأبوين بعد انفصام عقدة النكاح ، وهنا الطّامة تطمّ على الأبناء ، فالأمّ منصرفة عن ابنها إلى الزّوج الجديد ، والأب لاه بزوجته ، وربما كانت الزّوجة عامل إفساد تربية هؤلاء الصّغار ؛ من أجل ذلك كلّه شاء ربّك الحكيم ألا يهمل أمر هؤلاء الصغار ، وألّا تتوتر آصرة المحبة والإيلاف بين الزوجين ، وشاء ألّا يندم الزّوج على ما فرّط فيه ، فشرع الرجعة وملكها الزوج ؛ حتى لا يطول ندمه ، ولا تطول محنة الأبناء ، وأيضا قد تكون الزوجة لا عائل لها ، وليس ثمت من يرغب في نكاحها ، فكان بالرجعة مجال لدرء ما عساه أن يقع ؛ ولدفع الفاقة عن البائسات.
واصطلاحا :
عرفها الحنفية بأنها : استدامة الملك القائم في العدة برد الزوجة إلى زوجها ، وإعادتها إلى حالتها الأولى.
عرفها الشافعية بأنها : رد المرأة إلى النكاح من طلاق غير بائن في العدة ، على وجه مخصوص.
عرفها المالكية بأنها : عود الزوجة المطلقة للعصمة من غير تجديد عقد.
عرفها الحنابلة بأنها : إعادة المطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد. ينظر : القاموس المحيط ٣ / ٢٨.
وانظر الاختيار ١٠٠ ، اللباب ٥٦ ، الإقناع ٢ / ١٧٥ ، حاشية الدسوقي ٢ / ٤١٥ ، كشاف القناع ٥ / ٣٤١.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٤٥ والبيهقي (٧ / ٣٤٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٩٥) وزاد نسبته لوكيع وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبي داود في «ناسخه» وابن ـ