فالجواب : أمّا على قول أصحاب أبي حنيفة ، فالسؤال ساقط عنهم ؛ لأنهم حملوا قوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) على أن الجمع بين الطلقات غير مشروع ، وإنّما المشروع هو التفريق ، فإن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق ، وهذه في بيان كيفية المراجعة.
وأمّا على قول أصحاب الشافعي ، الذين حملوا تلك الآية على كيفية المراجعة ، فلهم أن يقولوا : إنّ من ذكر حكما يتناول صورا كثيرة وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهمّ ، أن يعيد بعد ذلك الحكم العامّ تلك الصورة الخاصّة مرّة أخرى ؛ ليدلّ ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام ، ما ليس في غيرها ، وها هنا كذلك ؛ لأنّ قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فيه بيان أنه لا بدّ في مدّة العدّة من أحد هذين الأمرين ، ومن المعلوم أنّ رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة ، أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبله ؛ لأن أعظم أنواع الإيذاء ، أن يطلقها ، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل ؛ حتى تبقى في العدة تسعة أشهر ، فلمّا كان هذا أعظم أنواع المضارة ، حسن إعادة حكم هذه الصورة ، تنبيها على أنّ هذه الصورة أعظم اشتمالا على المضارة ، وأولى بأن يحترز المكلف عنها.
فصل في معنى الإمساك بالمعروف
قال القرطبيّ (١) : الإمساك بالمعروف ، هو القيام بما يجب لها من حقّ على زوجها ؛ وكذلك قال جماعة من العلماء : إنّ من الإمساك بالمعروف أنّ الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة ، أن يطلقها ، فإن لم يفعل خرج عن حدّ المعروف ، فيطلّق عليه الحاكم من أجل الضرر اللّاحق بها ؛ لأن في بقائها عند من لا يقدر على نفقتها ، ضررا ، والجوع لا يصبر أحد عليه ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيدة ، وأبو ثور ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وهو قول عمر ، وعلي ، وأبي هريرة.
وقال سعيد بن المسيّب : إنّ ذلك سنة ، ورواه أبو هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقالت طائفة : لا يفرّق بينهما ، ويلزمها الصبر عليه ، وتتعلّق النفقة بذمّته ، بحكم الحاكم ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠].
وحجّة الأوّلين الآية ، وقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «تقول المرأة إمّا أن تطعمني وإمّا أن تطلّقني». رواه البخاري في «صحيحه» (٢).
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٠٢.
(٢) أخرجه البخاري (٩ / ٤١٠) كتاب «النفقات» : باب وجوب النفقة حديث رقم [٥٣٥٥] من حديث أبي هريرة.