فالجواب : الأمر لا يفيد إلّا مرة واحدة ؛ فلا يتناول كلّ الأوقات ؛ أمّا النهي فإنه يتناول
__________________
ـ وبيانه أن كل واجب كالقعود مثلا المطلوب بقولنا اقعد له أمران منافيان له أحدهما يسمى ضدا والآخر يسمى نقيضا ، وكل منهما يغاير الآخر لأن النقيض ينافي الواجب بذاته ، وهو عدم القعود حيث إن النقيضين هما الأمران اللذان أحدهما وجودي ، والآخر عدمي لا يجتمعان ولا يرتفعان كالقعود وعدمه في المثال الذي قدمنا ، بخلاف الضد كالقيام فإنه ينافيه بالعرض أي باعتبار أنه يحقق المنافي بذاته وهو النقيض لأن الضدين هما الأمران الوجوديان اللذان لا يجتمعان ، وقد يرتفعان كالقعود والقيام فإنهما لا يجتمعان في شخص واحد في وقت واحد ، وقد يرتفعان ويأتي بدلهما الاضطجاع مثلا إلا أن كل واحد من أضداد القعود يحقق النقيض وهو عدم القعود ؛ لأنه فرد من أفراده فلم يكن التنافي بين الواجب وضدّه ذاتيا ، بل لأن أحدهما يقتضي نقيض الآخر الذي ينافيه بالذات ، وهذا إذا كان النقيض له أفراد هي أضداد الواجب يحققه كل واحد منها.
أما إذا لم يكن له إلا فرد واحد هو ضد الواجب ولا يتحقق النقيض إلا به اعتبر ذلك الضد مساويا للنقيض كالحركة والسكون فإن السكون يساوي عدم الحركة لأن عدم الحركة لا يتحقق إلا بالسكون وأخذ مع ضده حكم النقيض فلا يجتمعان ولا يرتفعان إذ لا تجتمع حركة وسكون في وقت واحد في شيء واحد ولا يرتفعان كذلك ، بل لا بد أن يكون الشيء متصفا بأحدهما ضرورة أن الشيء الواحد لا يخلو عن حركة أو سكون.
والمدقق في هاتين العبارتين يجد بينهما ثلاثة فروق.
١ ـ أن التعبير بقولهم : «وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه» لا يفيد إلا حكم النقيض في الوجوب. أما حكمه في الندب فلا ، بخلاف التعبير بقولهم «الأمر بالشيء الخ» فإنه يفيد حكم الضد فيهما لأن الأمر بالشيء بصيغته عند عدم القرينة التي تصرف عن الوجوب إلى الندب يدل على الوجوب ومع القرينة الصارفة يدل على الندب. فالتعبير بالأمر يتناول الوجوب والندب ، والتعبير بالنهي يتناول التحريم والكراهة لأن النهي إن كان جازما فهو التحريم ، وإن كان غير جازم فهو الكراهة.
ومن هذا المنطلق يكون الأمر بالشيء دالا على تحريم الضد إن كان الأمر للوجوب. ودالا على كراهته إن كان الأمر للندب فيكون التعبير بقولهم : «الأمر بالشيء نهي عن ضده» مفيدا لحكم الضد في النوعين.
٢ ـ أن التعبير بقولهم «وجوب الشيء الخ» فيه بيان لحكم النقيض في الوجوب مطلقا أي : سواء كان الوجوب مأخوذا من صيغة الأمر ، أو مأخوذا من غيرها مثل فعل الرسول صلىاللهعليهوسلم والقياس وغير ذلك ، بخلاف التعبير بقولهم «الأمر بالشيء الخ» فإنه لا يفيد إلا حكم الضد في الوجوب المأخوذ من صيغة الأمر دون حكم الضد في الوجوب المستفاد من غيرها كما سبق.
٣ ـ أن التعبير بقولهم «الأمر بالشيء نهي عن ضده الخ» يفيد أن محل الخلاف في هذه المسألة هو ضد المأمور به وليس نقيضه. أما التعبير بقولهم : «وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه» فإنه يفيد أن نقيض الواجب موضع خلاف بينهم ، وأن من العلماء من يقول «بأن الأمر بالشيء ليس دالا على النهي عن نقيضه» وهو باطل لأن الإجماع منعقد على أن نقيض الواجب منهي عنه ؛ لأن إيجاب الشيء هو طلبه مع المنع من تركه والمنع من الترك هو النهي عن الترك ، والترك هو النقيض ، فيكون النقيض منهيا عنه. فالدال على الإيجاب وهو الأمر دال على النهي عن النقيض لأنه جزؤه ضرورة أن الدال على الكل يكون دالا على الجزء بطريق التضمن. وإذا كان الأمر كذلك تعين أن يكون الخلاف في الضد فقط ، ووجب أن يكون التعبير عن ذلك النزاع بما يدل صراحة على محله ، والذي يفيد ذلك هو العبارة الأولى لا الثانية. ـ