و «ببعض» متعلّق بالمصدر ، والباء للتعدية ، فمجرورها المفعول الثاني في المعنى ، والباء إنّما تكون للتعدية في اللّازم ، نحو : «ذهب به» فأمّا المتعدّي لواحد فإنّما يتعدّى بالهمزة ، تقول : «طعم زيد اللّحم ، وأطعمته اللّحم» ولا تقول : «طعمته باللّحم» ، فتعدّيه إلى الثاني بالباء ، إلّا فيما شذّ قياسا ، وهو «دفع» ، و «صكّ» ، نحو : صككت الحجر بالحجر ، أي : جعلت أحدهما يصكّ الآخر ، ولذلك قالوا : صككت الحجرين أحدهما بالآخر.
فصل في المدفوع والمدفوع به
اعلم أنّه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع ، والمدفوع به ، وأمّا المدفوع عنه ، فغير مذكور ، وهو يحتمل وجوها :
الأول : أن يكون المعنى : ولو لا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض ، فيكون الدّافعون هم الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام والأئمة الذين يمنعون النّاس عن الكفر بسبب البعض بإظهار الدّلائل.
قال تعالى : (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم : ١].
الثاني : دفع بعض الناس عن المعاصي ، والمنكرات بسبب البعض ، فيكون الدافعون هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ؛ لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١١٠].
الثالث : ولو لا دفع الله بعض الناس عن الهرج ، والمرج ، وإثارة الفتن في الدّنيا بسبب البعض ، فيكون الدّافعون هم الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ ثم الأئمة والملائكة الذّابّون عن شرائعهم ، وذلك أنّ الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده ، ما لم يخبز هذا لذاك ، ويطحن ذاك لهذا ، ويبني هذا لذاك ، وينسج ذاك لهذا ، ولا تتمّ مصلحة الإنسان.
فالظّاهر أن مصلحته لا تتمّ إلّا باجتماع جمع في موضع واحد ، ولهذا قيل إن الإنسان مدنيّ بالطبع ، ثم إنّ الاجتماع سبب للمنازعة المفضية إلى المخاصمة ، ثم إلى المقاتلة ، فلا بدّ في الحكمة الإلهيّة من وضع شريعة بين الخلق ليقطع بها الخصومات ، والمنازعات ، فبعث الله الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ بالشّرائع ؛ ليدفع بهم ، وبشرائعهم الآفات ، والفساد عن الخلق فإنّ الخلق ما داموا متمسكين بالشّرائع لا يقع بينهم خصام ولا نزاع ، والملوك والأئمة متى كانوا متمسكين بالشرائع كانت الفتن زائلة والمصالح حاصلة ، ولهذا قال عليه الصّلاة والسّلام : «الإسلام والسّلطان أخوان» (١) وقال أيضا : «الإسلام أمير ، والسّلطان حارس ، فمن لا أمير له فهو منهزم ، ومن لا حارس له فهو ضائع» (٢).
__________________
(١) أخرجه الديلمي عن ابن عباس كما في «كنز العمال» (٦ / ١٠) رقم (١٤٥١٣).
(٢) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٦ / ١٦٢). ووقع في المخطوطة أبلفظ : الإسلام أس