وثانيها : «بالحقّ» أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب ؛ لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت أصلا.
وثالثها : أنّا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالّة على نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة.
ورابعها : «بالحقّ» ، أي : يجب عليك أن تعلم : أنّ نزول هذه الآيات من قبل الله تعالى ، وليس من قبل الشياطين ، ولا تحريف الكهنة والسحرة ، وقوله عقيب ذلك : «وإنّك لمن المرسلين» يحتمل وجهين :
الأول : أن إخبارك عن هذه القصص من غير تعلّم ، ولا دراسة دليل على أنّك رسول وإنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى.
الثاني : أن يكون المراد منه تسلية الرسول صلىاللهعليهوسلم. والمعنى أنك إذا عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء من الخلاف والرد لقولهم ، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك ، وخلاف من خالفك ، لأنّ لك بهم أسوة وإنّما بعثوا لتأدية الرّسالة على سبيل الاختبار ، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك إنّما يرجع عليهم.
قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)(٢٥٣)
قال القرطبيّ (١) : قال «تلك» ، ولم يقل «ذلك» مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة ، وهي رفع بالابتداء ، و «الرّسل» نعته ، وخبر الابتداء الجملة وقيل : «الرسل» عطف بيان ، و «فضّلنا» الخبر.
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
قال أبو مسلم (٢) : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها ، ما ذكر في الآية التي قبلها من تسلية الرّسول صلىاللهعليهوسلم ، وهو أنّه أخبر النّبيّ صلىاللهعليهوسلم بأخبار الأنبياء المتقدّمين ، وأقوال أممهم لهم ، كسؤال قوم موسى : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] ، وقولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨]. وكقوم عيسى بعد مشاهدة إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله ، فكذبوه ، وراموا قتله ، ثم أقام فريق منهم على الكفر به ، وهم اليهود ، وزعم فريق منهم أنّهم أولياؤه ، وكالملأ من بني إسرائيل الذين حسدوا طالوت ،
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٧٠.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٦٥.