وأمّا حديث النّبيذ فلعلّه كان ماءا نبذت فيه تمرات ؛ لتذهب ملوحته فتغيّر طعم الماء قليلا إلى الحموضة ، وطبعه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان في غاية اللّطافة ، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطّعم ؛ فلذلك قطّب وجهه ، وإنما صبّ الماء فيه ؛ إزالة لتلك الحموضة ، أو الرائحة. وأمّا آثار الصّحابة ، فمتدافعة متعارضة.
فصل في عدد الآيات التي نزلت بمكة في تحريم الخمر
قالوا : نزل في الخمر أربع آيات بمكّة :
قوله : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) [النحل : ٦٧] وكان المسلمون يشربونها ، وهي لهم حلال ، ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصّحابة قالوا : يا رسول الله ، أفتنا في الخمر ، فإنّها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزل قول تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ)(١) [البقرة : ٢١٩] ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله تقدّم في الخمر» ، فتركها قوم لقوله (إِثْمٌ كَبِيرٌ) وشربها قوم لقوله (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ). إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعا ناسا من أصحاب النّبي صلىاللهعليهوسلم وأتاهم بخمر ، فشربوا ، وسكروا ، وحضرت صلاة المغرب ؛ فتقدّم بعضهم ليصلّي بهم فقرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) هكذا إلى آخر السورة بحذف «لا» ، فأنزل الله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)(٢) [النساء : ٤٣] فحرّم السّكر في أوقات الصلاة ، فلما نزلت هذه الآية ، تركها قوم ، وقالوا : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصّلاة وتركها قوم في أوقات الصّلاة ، وشربوها في غير وقت الصّلاة ، حتّى كان الرّجل يشرب بعد صلاة العشاء ، فيصبح ، وقد زال عنه السّكر ، ويشرب بعد صلاة الصّبح ، فيصحو إذا جاء وقت الظّهر ، واتخذ عتبان بن مالك صبغا ودعا رجالا من المسلمين ، فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير ، فأكلوا منه ، وشربوا الخمر ، حتى أخذت منهم ، ثمّ إنّهم افتخروا عند ذلك ، وانتسبوا ، وتناشدوا ، فأنشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار ، وفخر لقومه ، فأخذ رجل من الأنصار لحي بعير ، فضرب به رأس سعد ؛ فشجّه موضّحة (٣)
__________________
(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧) رقم (٣٠٤٩) والنسائي (٨ / ٢٨٦) رقم (٥٥٤٠) وأبو داود (٢ / ٣٤٩) رقم (٣٦٧٠) والحاكم (٢ / ٢٧٨) وأورده السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٥٢) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ وابن مردويه والضياء المقدسي في «المختارة» عن عمر.
(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٩٣).
(٣) الموضحة لغة : هي الشّجة التي توضح العظم أي : تظهره. انظر : الصحاح ١ / ٤١٦.
اصطلاحا :
عرفها الحنفية بأنها : هي التي توضح العظم ، أي تبينه.
عرفها الشافعية بأنها : التي توضح العظم ، وإن لم يشاهد من أجل الدم الذي يستره.
عرفها المالكية بأنها : ما أوضحت عظم الرأس ، والجبهة ، والخدين.