والمقصود من هذا الكلام : أنّه عالم بأحوال الشّافع ، والمشفوع له ، فيما يتعلّق باستحقاق الثّواب والعقاب ؛ لأنّه عالم بجميع المعلومات (١) لا يخفى عليه شيء والشّفعاء لا يعلمون من أنفسهم أنّ لهم من الطّاعة (٢) ما يستحقّون به هذه المنزلة العظيمة عند الله ، ولا يعلمون أنّ الله هل (٣) أذن لهم في تلك الشّفاعة ، أم لا.
قوله : «بشيء» متعلّق ب «يحيطون». والعلم هنا بمعنى المعلوم ؛ لأنّ علمه تعالى الذي هو صفة قائمة بذاته المقدّسة لا يتبعّض ، ومن وقوع العلم موقع المعلوم قولهم : «اللهمّ اغفر لنا علمك فينا» وحديث موسى ، والخضر ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ «ما نقص علمي وعلمك من علمه إلّا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر» (٤) ولكون العلم بمعنى المعلوم ، صحّ دخول التّبعيض ، والاستثناء عليه. و «من علمه» يجوز أن يتعلّق ب «يحيطون» ، وأن يتعلّق بمحذوف لأنه صفة لشيء ، فيكون في محلّ جر. و «بما شاء» متعلّق ب «يحيطون» أيضا ، ولا يضرّ تعلّق هذين الحرفين المتّحدين لفظا ومعنى بعامل واحد ؛ لأنّ الثاني ومجروره بدلان من الأول ، بإعادة العامل بطرق الاستثناء ، كقولك : «ما مررت بأحد إلّا بزيد» ، ومفعول «شاء» محذوف تقديره : إلا بما شاء أن يحيطوا به ، وإنما قدّرته كذلك لدلالة قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ).
فصل
هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكونوا هم الملائكة ، ويحتمل أن يكونوا الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النّبيين ، والصّديقين والشهداء والصالحين.
وفي معنى الاستثناء قولان :
أحدهما : أنّهم لا يعلمون شيئا من معلوماته إلا ما أراد هو أن يعلمهم كما قالوا (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢].
الثاني : أنّهم لا يعلمون الغيب إلّا بما شاء أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الغيب كقوله تعالى (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ـ ٢٧].
قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : الجمهور على «وسع» بفتح الواو وكسر السّين وفتح العين فعلا ماضيا.
و «كرسيّه» بالرّفع على أنّه فاعله ، وقرئ «وسع» سكّن عين الفعل تخفيفا نحو : علم في علم. وقرئ أيضا : «وسع كرسيّه» بفتح الواو وسكون السين ورفع العين على الابتداء ، و «كرسيّه» خفض بالإضافة «السّموات» رفعا على أنه خبر للمبتدأ.
__________________
(١) في ب : المخلوقات.
(٢) في ب : الطاعات.
(٣) في ب : هو الذي.
(٤) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٢٨٩ ، والدر المصون ١ / ٦١٥.