فصل فيمن قال : كم لبثت
أجمعوا على (١) أن ذلك القائل هو الله تعالى ؛ لأنّ ذلك الخطاب كان مقرونا بالمعجز ، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره ، وظهور البلى في عظامه ، ما عرف به أنّ تلك الخوارق لم تصدر إلّا من الله تعالى.
وقيل : سمع هاتفا من السماء ، يقول له ذلك.
وقيل : خاطبه جبريل ، وقيل : نبيّ.
وقيل : مؤمن شاهده من قومه عند موته ، وعمّر إلى حين إحيائه.
قال القرطبي (٢) : والأظهر أنّ القائل هو الله ـ عزوجل ـ ، لقوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً).
فإن قيل : إنه تعالى كان عالما بأنه كان ميتا ، والميّت لا يمكنه بعد أن صار حيّا أن يعلم مدّة موته طويلة كانت أم قصيرة ؛ فلأيّ حكمة سأله عن مقدار المدة؟
فالجواب (٣) : أنّ المقصود منه التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق ، بقوله : (لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) على حسب ظنّه ، كما روي في القصة : أنه أماته ضحى ، وأحياه بعد المائة قبل غروب الشمس ؛ فظن أنّ اليوم لم يكمل ، كما حكي عن أصحاب الكهف : (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [الكهف : ١٩] على ما توهّموه ، ووقع في ظنّهم.
وقول إخوة يوسف (يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) [يوسف : ٨١] وإنما قالوا ذلك ؛ بناء على إخراج الصّواع من رحله.
قوله : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) هذه الجملة في محلّ نصب على الحال ، وزعم بعضهم : أنّ المضارع المنفيّ ب «لم» إذا وقع حالا ، فالمختار دخول واو الحال ؛ وأنشد : [الطويل]
١٢٠١ ـ بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم |
|
ولم تكثر القتلى بها حين سلّت (٤) |
وزعم آخرون : أنّ الأولى نفي المضارع الواقع حالا بما ، ولمّا. وهذان الزّعمان غير صحيحين ؛ لأنّ الاستعمالين واردان في القرآن ، قال تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران : ١٧٤] ، وقال تعالى : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) [الأنعام : ٩٣] فجاء النفي ب «لم» مع الواو ودونها.
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٢٩.
(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٨٩.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٢٩.
(٤) البيت للفرزدق في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٢٢ ، شرح شواهد المغني ص ٧٧٨ ، ولسان العرب (خرر) ، (شيم) ، الإنصاف ص ٦٦٧ ، تذكرة النحاة ص ٦٢٠ ، شرح المفصل ٢ / ٦٧ ، ومغني اللبيب ص ٣٦٠.