فصل في معنى «سعيا»
قيل : معنى «سعيا» عدوا ومشيا على أرجلهنّ ؛ لأن ذلك أبلغ في الحجة.
وقيل : «طيرانا». ولا يصحّ ؛ لأنه لا يقال للطائر إذا طار : سعى ، ومنهم من أجاب عنه : بأن «السّعي» هو الاشتداد في الحركة ، فإن كانت الحركة طيرانا ، فالسّعي فيها هو الاشتداد في تلك الحركة.
روي أنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ذبحها ، ونتف ريشها ، وقطّعها أجزاء ، وخلط لحمها ، وريشها ، ودمها ، ووضع على كلّ جبل جزءا من ذلك المجموع ، وأمسك رؤوسهن ، ثم دعاهنّ فقال : تعالين بإذن الله تعالى ، فجعلت كلّ قطرة من دم طائر تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل عظم يصير إلى الآخر من جثّته ، وكل بضعة تصير إلى الأخرى ، وإبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ينظر ؛ حتى لقيت كل جثّة بعضها بعضا في الهواء بغير رأس ، ثم أقبلن إلى رؤوسهنّ سعيا : كلّ جثّة إلى رأسها ، فانضمّ كلّ رأس إلى جثّته ، وصار الكلّ أحياء بإذن الله. (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على جميع الممكنات «حكيم» عالم بعواقب الأمور ، وغاياتها.
قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٢٦١)
لمّا بين تعالى أصل العلم بالمبدأ ، والمعاد ، وبيّن دلائل صحّتها ، أتبع ذلك ببيان الشرائع ، والأحكام ، فبدأ ببيان التكليف ، بالإنفاق.
قال القاضي (١) في كيفية النّظم : إنه تعالى لمّا أجمل قوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] فصل بهذه الآية الكريمة تلك الأضعاف ، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلّة على قدرته بالإحياء والإماتة ، من حيث : لو لا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق ، لأنه لو لا وجود الإله المثيب المعاقب ، لكان الإنفاق ، وسائر الطاعات عبثا فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق : قد عرفت أنّي خلقتك ، وأكملت نعمتي عليك ، بالإحياء ، والإقدار ، وقد علمت قدرتي على المجازاة ، فليكن علمك بهذه الأحوال داعيا إلى إنفاق المال ؛ فإنه يجازي القليل بالكثير ، ثمّ ضرب لذلك الكثير مثلا.
وقال الأصم (٢) : إنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتجّ على الكلّ بما يوجب تصديق النبي ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ؛ ليرغبوا بالمجاهدة بالنفس ، والمال ، في نصرته ، وإعلاء شريعته.
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٣٩.
(٢) ينظر : المصدر السابق.