وثالثها : أنّ هذه المعصية من خواصّها أنّ الإنسان إذا اشتغل بها وواظب عليها ، كان ميله ونفسه عليها أقوى ، بخلاف سائر المعاصي ، فإنّ الزّاني مثلا إذ فعل مرّة واحدة فترت رغبته ، وكلمّا زاد فعله ؛ كان فتوره أكثر ؛ بخلاف الشّرب فإنّه كلّما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه إليها ورغبته فيه أكثر ، فإذا واظب عليه ؛ صار غارقا في اللّذّات البدنيّة معرضا عن تذكر الآخرة ، حتّى يدخل في الّذين نسوا الله ، فأنساهم أنفسهم.
وبالجملة إذا زال العقل ؛ حصلت القبائح بأسرها ، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام : «اجتنبوا الخمر فإنّها أمّ الخبائث» (١). ويصدر عن الشّارب المخاصمة ، والمشاتمة وقول الفحش والزّور.
وأما الإثم الكبير في الميسر ، فإنّه يفضي إلى العداوة أيضا لما يجري بينهم من الشّتم ، والمنازعة ؛ لأنّه أكل مال بالباطل ، وذلك يورث العداوة ؛ لأنّ صاحبه إذا أخذ ماله مجّانا ؛ أبغضه جدّا ، وهو يشغل عن ذكر الله ، وعن الصّلاة أيضا.
وأمّا المنافع المذكورة فيهما ، فمنافع الخمر أنّهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النّواحي ، وكان المشتري ، إذا ترك المماكسة في الثّمن ؛ كانوا يعدّون ذلك فضيلة ، ومكرمة ، وكانت تكثر أرباحهم بذلك السّبب ، ومنها أنّها تقوّي الضّعيف ، وتهضم الطّعام ، وتعين على الباءة (٢) وتسلي المحزون ، وتشجّع الجبان ، وتسخي البخيل ، وتصفي اللّون وتنعش الحرارة الغريزيّة ، وتزيد من الهمّة ، والاستعلاء (٣). ومن منافع الميسر : التّوسعة على ذوي الحاجات ؛ لأنّ من قمر لم يأكل من الجزور شيئا وإنما يفرّقه في المحتاجين ؛ وذكر الواقديّ (٤) أنّ الواحد كان ربّما يحصل له في المجلس الواحد مائة بعير ، فيحصل له مال من غير كدّ ، ولا تعب ، ثم يصرفه إلى المحتاجين ، فيكتسب فيه الثّناء ، والمدح ، وكانوا يشترون الجزور ، ويضربون سهامهم ، فمن خرج سهمه ؛ أخذ نصيبه من اللّحم ، ولا يكون عليه شيء من الثّمن ، ومن بقي سهمه آخرا ، كان عليه ثمن الجزور كلّه ، ولا يكون له من اللّحم شيء.
__________________
(١) أخرجه الدار قطني (٤ / ٢٤٧) والبيهقي (١ / ٢٨٧) والطبراني في «الكبير» (١١ / ١٦٤ ، ٢٠٣).
وانظر كنز العمال (١٣١٨١ ، ١٣١٨٢).
(٢) ليس للخمر أي أثر في تقوية الباءة ، بل على العكس كثيرا ما يسبب الارتخاء في الرجال ، والعقم عند النساء ، أما ما يحدث من التهيج للشهوة عند الشراب فهو أثر مؤقّت ينتج من ضعف الإرادة. «أثر الخمور في الجهاز الدوري والكلى» : يصاب المدمنون على الخمر عادة بتشحم القلب ، وتصلب الشرايين ، مما قد يؤدّي بهم إلى هبوط القلب ، وضعف الدورة الدموية ؛ كما يصابون كثيرا بالالتهاب الكلوي المزمن.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤١.
(٤) ينظر : المصدر السابق.