«من نخيل وأعناب» وإنما خصهما بالذكر ؛ لأنهما أشرف الفواكه وأحسنها منظرا حيث تكون باقية على الأشجار ، ووصف تلك الجنّة بأن الأنهار تجري من تحتها ، وذلك زيادة في الحسن ، وأنّ فيها من كلّ الثمرات ، وهذا سبب لكمال حال هذه الجنّة من الرؤية ، والمنظر ، وكثرة النّفع ، والرّيع ، ولا يمكن الزيادة على ذلك ، فإذا كبر أو ضعف وصار له أولاد ضعاف ، أي : بسبب الصّغر ، والطفوليّة ، فإنه إذا صار كبيرا ؛ عجز عن الاكتساب ، وكثرت جهات حاجاته في مطعمه ، وملبسه ، ومسكنه ، ومن يقوم بخدمته ، وتحصيل مصالحه ، فإذا تزايدت حاجاته ، وتناقصت جهات مكسبه ، أصاب جنّته إعصار فيه نار فاحترقت ، وهو أحوج ما يكون إليها ، وضعف عن إصلاحها ؛ لكبره ، وضعف أولاده عن إصلاحها ؛ لصغرهم ، فلم يجد هو ما يعود به على أولاده ، ولا أولاده ما يعودون به عليه ، فبقوا جميعا متحيرين عجزة لا حيلة بأيديهم ، كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق ، والمرائي حيث لا مغيث لهما ، ولا توبة ، ولا إقالة ، ونظير هذه الآية الكريمة (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر : ٤٧] وقوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣].
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٢٦٧)
اعلم أنه تعالى لما ذكر الانفاق على قسمين ، وبين كل قسم وضرب له مثلا ، ذكر في هذه الآية كيفية الإنفاق.
قوله تعالى : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) : في مفعول «أنفقوا» قولان :
أحدهما : أنه المجرور ب «من» ، و «من» للتبعيض ، أي : أنفقوا بعض ما رزقناكم.
والثاني : أنه محذوف قامت صفته مقامه ، أي : شيئا ممّا رزقناكم ، وتقدّم له نظائر.
و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية ، والعائد محذوف ؛ لاستكمال الشروط ، أي : كسبتموه ، وأن تكون مصدرية أي : من طيّبات كسبكم ، وحينئذ لا بدّ من تأويل هذا المصدر باسم المفعول ، أي : مكسوبكم ، ولهذا كان الوجه الأول أولى.
و (مِمَّا أَخْرَجْنا) عطف على المجرور ب «من» بإعادة الجار ، لأحد معنيين : إمّا التأكيد ، وإمّا للدلالة على عامل آخر مقدر ، أي : وأنفقوا ممّا أخرجنا. ولا بدّ من حذف مضاف ، أي : ومن طيبات ما أخرجنا. و «لكم» متعلّق ب «أخرجنا» ، واللام للتعليل. و «من الأرض» متعلّق ب «أخرجنا» ، و «من» لابتداء الغاية.
قوله : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) الجمهور على «تيمّموا» ، والأصل : تتيمموا بتاءين ، فحذفت إحداهما تخفيفا : إمّا الأولى ، وإمّا الثانية ، وقد تقدّم تحريره عند قوله : (تُظْهِرُونَ) [البقرة : ٨٥].