يصل الرحم ، ولا يردّ الوديعة ، فإذا صار هكذا ، سقط وقع الذنوب عن قلبه ، ويصير غير مبال بارتكابها ، وهناك يتّسع الخرق ، ويصير مقداما على كلّ الذنوب ، وذلك هو الفحشاء ، وتحقيقه : أنّ لكل خلق طرفين ، ووسطا ، فالطرف الكامل : هو أن يكون بحيث يبذل كلّ ما يملكه في سبيل الله : الجيّد ، والرديء ، والطرف الفاحش النّاقص لا ينفق شيئا في سبيل الله : لا الجيد ، ولا الرديء ، والمتوسط بأن يبخل بالجيد ، وينفق الرديء ، فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش ، لا يمكنه إلّا بأن يجره إلى الوسط ، فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام ، انقطع طمع الشيطان عنه ، وإن أطاعه فيه ، طمع في أن يجرّه من الوسط إلى الطرف الفاحش ، فالوسط : هو قوله تعالى : (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) والطرف الفاحش قوله تعالى : (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ).
وقال القرطبيّ (١) : «الفحشاء» : المعاصي ، قال : ويجوز في غير القرآن : ويأمركم الفحشاء بحذف الباء ، وأنشد سيبويه : [البسيط]
١٢٣٢ أ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به |
|
فقد تركتك ذا مال وذا نشب (٢) |
فصل في بيان هل الفقر أفضل من الغنى؟!
تمسك بعضهم (٣) بهذه الآية في أنّ الفقر أفضل من الغنى ، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير ، وهو بتخويفه الفقر يبعد منه.
قال ابن عطية : وليس في الآية حجّة ؛ لقوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ : ٣٩] ثم قال : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) لذنوبكم ، كقوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣].
وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة :
أحدهما : التنكير في لفظ «المغفرة» ، والمعنى : مغفرة وأيّ مغفرة.
والثاني : قوله : (مَغْفِرَةً مِنْهُ) يدل على كمال حال هذه المغفرة ؛ لأن كمال كرمه ونهاية جوده ، معلوم لجميع العقلاء ، فلما خص هذه المغفرة بكونها منه ، علم أنّ
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢١٣.
(٢) البيت لعمرو بن معدي كرب ينظر ديوانه ص ٦٣ ونسب أيضا لخفاف بن ندبة ينظر ديوانه ص ١٢٦ وللعباس بن مرداس ينظر ديوانه ص ١٣١ ونسب أيضا لأعشى طرود ولزرعة بن خفاف ينظر الكتاب ١ / ٣٧ خزانة الأدب ١ / ٣٣٩ ـ ٣٤٢ و ٩ / ١٢٤ ، المحتسب ١ / ٥١ ـ ٣٧٢ ، المقتضب ٢ / ٣٦ ـ ٨٦ ـ ٣٢١ شرح أبيات سيبويه ١ / ٢٥٠ ، شرح شواهد المغني ص ٧٢٧ مغني اللبيب ص ٣١٥ ، الأشباه والنظائر ٤ / ١٦ ، ٨ / ٥١ ، اللامات ص ١٣٩ شرح المفصل ٨ / ٥٠ ، شرح شذور الذهب ص ٤٧٧ ، الدرر ٥ / ١٨٦.
(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢١٣ ، والمحرر الوجيز ١ / ٣٦٤.