«من» النصب بإضمار فعل ، وتقديره متأخرا والرفع على الابتداء ، وقد تقدم نظائر هذا.
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
احتجّوا بهذه الآية الكريمة على أنّ فعل العبد مخلوق لله تعالى ؛ لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم ، لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية ؛ لأنها حاصلة للبهائم ، والمجانين ، والأطفال ، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكمة ، فهي مفسرة بالعلوم النظرية ، وإن فسرناها بالأفعال الحسية فالأمر ظاهر ، وعلى التقديرين : فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية ، والحسية ثابتا من غيرهم ، وبتقدير مقدّر من غيرهم ، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوة أو القرآن ، أو قوة الفهم أو الخشية ، على ما قال الرّبيع بن أنس (١)؟
فالجواب : إنّ الدليل الذي ثبت بالتواتر أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء فتكون الحكمة مغايرة للنبوة والقرآن ، بل هي مفسرة : إمّا بمعرفة حقائق الأشياء ، أو بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة ، وعلى التقديرين ، فالمقصود حاصل فإن حاولت حمل الإيتاء على التوفيق ، والإعانة ، والألطاف ، قلنا : كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين ، فقد فعل مثله في حق الكفّار ، مع أن هذا المدح العظيم لا يتناولهم ، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيء آخر سوى فعل الألطاف.
قوله : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) وأصل «يذّكّر» : يتذكّر ، فأدغم.
«وأولوا الألباب» ذوو العقول ، ومعناه : أن الإنسان إذا تأمّل ، وتدبر هذه الأشياء ، وعرف أنها لم تصل إلّا بإيتاء الله تعالى ، وتيسيره ، كان من أولي الألباب.
قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)(٢٧٠)
قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) كقوله : (ما نَنْسَخْ) [البقرة : ١٠٦] (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) [البقرة : ١٩٧] وقد تقدّم. وأيضا تقدّم الكلام في مادة «نذر» في قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة : ٦] ، إلّا أنّ النّذر له خصوصيّة : وهو عقد الإنسان ضميره على شيء ، يقال : نذر فهو ناذر ؛ قال عنترة : [الكامل]
١٢٣٣ ب ـ الشّاتمي عرضي ولم أشتمهما |
|
والنّاذرين إذا لم القهما دمي (٢) |
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي.
(٢) ينظر : ديوانه (٢٢٢) ، شرح القصائد العشر (٣٧٧) ، العيني ٢ / ٥٥١ ، الأشموني ٢ / ٢٤٦ ، التصريح ٢ / ٦٩ ، شرح شواهد الألفية ٣ / ٥٥١ والمقاصد النحوية ٣ / ٥٥١ ، والشعر والشعراء ١ / ٢٥٩. والأغاني ٩ / ٢١٢ ، البحر ٢ / ٣٢٨ ، الدر المصون ١ / ٦٤٩.