فأجابهم الله تعالى بقوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) ، وتوجيه هذا الجواب أنّ ما ذكرتم معارضة للنّصّ بالقياس ؛ وهو (١) لا يجوز.
فصل في دفع شبهة لنفاة القياس
تمسّك نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : لو كان الدّين بالقياس ، لكانت هذه الشبهة لازمة ، فلمّا بطلت ، علمنا أن الدين بالنّصّ لا بالقياس.
وفرّق القفّال (٢) بينهما ، فقال : من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين ، فقد جعل ذات الثّوب مقابلة بالعشرين ، فلمّا حصل التراضي (٣) على هذا التقابل ، صار كلّ واحد منهما مقابلا للآخر في المالية عندهما ، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئا بغير عوض. أمّا إذا باع العشرة بالعشرة ، فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض ، ولا يمكن أن يقال : إنّ غرضه هو الإمهال في الأجل ؛ لأن الإمهال ليس إلّا مالا أو شيئا يشار إليه ، حتى يجعله عوضا عن (٤) العشرة الزائدة ؛ فافترقا.
فإن قيل : ما الحكمة في قلب هذه القضية؟ ومن حقّ القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ؛ لأن حلّ البيع متفق عليه ، وهم أرادوا قياس الربا عليه ؛ فكان نظم الكلام أن يقال : إنما الرّبا مثل البيع ، فقلبه ، وقال : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا)؟
فالجواب أنّه لم يكن مقصود القوم أن يتمسّكوا بنظم القياس ، بل كان غرضهم (٥) أنّ البيع والرّبا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة ، فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحلّ ، والآخر بالحرمة ، وعلى هذا التقدير : فأيّهما قدّم ، أو أخّر جاز.
قوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) الظاهر أنه من كلام الله تعالى ، أخبر بأنه أحلّ هذا ، وحرّم ذاك ، وعلى هذا ؛ فلا محلّ لهذه الجملة من الإعراب. وقال بعضهم : «هذه الجملة من تتمّة قول الذين يأكلون الربا ، فتكون في محلّ نصب بالقول ؛ عطفا على المقول» وهو بعيد جدا ، لأنّ القائل بأنّ هذا من كلام الكفّار ، لا يتمّ إلّا بإضمار زيادة ، إمّا بأن يحمل ذلك على الاستفهام ؛ على سبيل الإنكار ، أو يحمل ذلك على الرّواية من قول المسلمين ، والإضمار خلاف الأصل ، وعلى الأول لا يحتاج إلى الإضمار ، فكان أولى أيضا فإنّ المسلمين ـ أبدا ـ يتمسّكون في جميع مسائل البيع بهذه الآية ، ولو كان ذلك من كلام الكفّار ، لما جاز لهم الاستدلال به. وأيضا ، فقوله بعده : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ..) إلى قوله : «... خالدون» يقتضي أنّهم لما تمسّكوا بقولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) فالله تعالى قد كشف عن فساد تلك الشّبهة ، وبيّن ضعفها ، فلو لم
__________________
(١) في ب : وهذا.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٨٠ ،
(٣) في ب : بالتراخي.
(٤) في ب : من.
(٥) في ب : يحرضهم.