عاد إلى الكلام المتقدم ، وهو استحلال الرب ا «فأمره إلى الله» ثم هذا الإنسان إمّا أن يقال : إنه كما انتهى عن استحلال الربا ، انتهى ـ أيضا ـ عن أكل الربا ، وليس كذلك ؛ فإن كان الأول كان هذا الشخص مقرا بدين الله عالما بتكليف الله تعالى ؛ فحينئذ يستحق المدح والتعظيم ، لكنّ قول ه «فأمره إلى الله» ليس كذلك ؛ لأنه يدلّ على أنه تعالى إن شاء عذّبه ، وإن شاء غفر له ، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ، ولا بالمؤمن المطيع ، فلم يبق إلّا أنها تختصّ بمن أقرّ بحرمة الرّبا ، ثم أكل الربا ؛ فهذا أمره إلى الله إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له ، فهو كقوله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨]. ثم قال : (وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ومن عاد إلى استحلال الربا ، حتى يصير كافرا ، وفيها دليل على أنّ الخلود لا يكون إلّا للكافر.
قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)(٢٧٦)
قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي) : الجمهور على التخفيف في الفعلين من : محق ، وأربى. وقرأ (١) ابن الزبير : ورويت عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «يمحّق ، ويربّي» بالتشديد فيهما.
والمحق : النقص ، يقال : محقته فانمحق ، وامتحق ؛ ومنه المحاق في القمر ؛ قال : [البسيط]
١٢٦١ ـ يزداد حتّى إذا ما تمّ أعقبه |
|
كرّ الجديدين نقصا ثمّ ينمحق (٢) |
وأنشد ابن السّكّيت : [الطويل]
١٢٦٢ ـ وأمصلت مالي كلّه بحياته |
|
وما سست من شيء فربّك ماحقه (٣) |
ويقال : هجير ما حق : إذا نقص كلّ شيء بحرّه.
وقد اشتملت هذه الآية على نوعين من البديع :
أحدهما : الطّباق في قوله : «يمحق ، ويربي» فإنهما ضدّان ، نحو : (أَضْحَكَ وَأَبْكى) [النجم : ٤٣].
والثاني : تجنيس التغاير في قوله : «الرّبا ، ويربي» إذ أحدهما اسم والآخر فعل.
فصل في بيان وجه النّظم
لما كان الداعي إلى فعل الرّبا ، تحصيل الزيادة ، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقص الخيرات ـ بيّن تعالى ـ هاهنا ـ أنّ الربا وإن كان زيادة ، فهو نقصان في الحقيقة ، وأن الصدقة وإن كانت نقصا في الصورة ، فهي زيادة في المعنى ، فلا يليق
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٥٠ ، المحرر الوجيز ١ / ٣٧٣ ، والدر المصون ١ / ٦٦٣.
(٢) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٤٦ ، الدر المصون ١ / ٦٦٤.
(٣) ينظر : إصلاح المنطق (٢٧٩) ، والدر المصون ١ / ٦٦٤.