فأوردت عليهم إشكالا في هذا الباب ، فقلت : إنكم تقولون : إنّ «كان» إذا كانت ناقصة ، أنها تكون فعلا ؛ وهذا محال ؛ لأن الفعل ما دلّ على اقتران حدث بزمان ، فقولك «كان» يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي ، وإذا أفاد هذا المعنى ، كانت تامة ، لا ناقصة ، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلا ، كانت تامة لا ناقصة ، وإن لم تكن تامة لم تكن فعلا ألبتة ؛ بل كانت حرفا ، وأنتم تنكرون ذلك ؛ فبقوا في هذا الإشكال زمانا طويلا ، وصنّفوا في الجواب عنه كتبا ، وما أفلحوا فيه ، ثم انكشف لي فيه سرّ أذكره ـ هاهنا ـ وهو : أنّ «كان» لا معنى له إلّا أنه حدث ، ووقع ، ووجد إلّا أن قولك وجد ، وحدث على قسمين :
أحدهما : أن يكون المعنى وجد ، وحدث الشيء ؛ كقولك : وجد الجوهر ، وحدث العرض.
والثاني : أن يكون المعنى وجد ، وحدث موصوفية الشيء بالشيء ، فإذا قلت : كان زيد عالما ، فمعناه : حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم.
والقسم الأول هو المسمّى ب «كان» التامة.
والقسم الثاني : هو المسمّى ب «الناقصة» وفي الحقيقة : فالمفهوم من «كان» في الموضعين هو الحدوث ، والوقوع إلّا أنه في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه فلا جرم كان الاسم الواحد كافيا والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر ، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافيا ، بل لا بدّ فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر ، وهذا من لطائف الأبحاث.
فأما إن قلنا إنه فعل ، كان دالّا على وقوع المصدر في الزمان الماضي فحينئذ تكون تامة لا ناقصة ، وإن قلنا إنه ليس بفعل بل حرف ، فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل ، والأمر ، وجميع خواصّ الأفعال؟ وإذا حمل الأمر على ما قلناه ، تبيّن أنه فعل وزال الإشكال بالكلية.
المفهوم الثالث ل «كان» أن تكون بمعنى «صار» ؛ وأنشدوا : [الطويل]
١٢٧١ ـ بتيهاء قفر والمطيّ كأنّها |
|
قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها (١) |
وعندي أنّ هذا اللفظ ـ هاهنا ـ محمول على ما ذكرناه ، فإنّ معنى «صار» أنّها حدثت موصوفية الذات بهذه الصفة ، بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك ؛ فتكون «كان» هنا أيضا بمعنى حدث ، ووقع ؛ إلّا أنه حدوث مخصوص وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة ، بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى.
__________________
(١) تقدم برقم ٣٨٧.