وثالثها : أن قوله تعالى (فَإِخْوانُكُمْ) يدلّ على أنّ المراد هو هذا النّوع ؛ لأنّ اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى إصلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلما ؛ فوجب أن تكون الإشارة بقوله «فإخوانكم» إلى نوع آخر من المخالطة.
ورابعها : أنّ المخالطة المندوب إليها هي في اليتامى الذين هم إخوان لكم بالإسلام ، فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم ، ليتأكد الاختلاط فإن كان اليتيم من المشركين ، فلا تفعلوا ذلك.
قال القرطبيّ (١) : ما ينفقه الوصيّ والكفيل له حالتان :
حالة لا يمكنه الإشهاد عليها ، فقوله مقبول بغير بيّنة.
وحالة يمكنه الإشهاد عليها ، فمهما اشترى من العقار ، وما جرت العادة بالتّوثق فيه ، لم يقبل قوله بغير بيّنة.
وفرّق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصيّ ، وينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته ، وكسوته ، لأنّه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله ، ويلبسه في كلّ وقت ، ولكن إذا قال : انفقت نفقة لسنة ، قبل منه ، وبين أن يكون عند أمّه ، أو حاضنته فيدعي الوصي أنّه كان ينفق عليه ، أو كان يعطي الأمّ أو الحاضنة فلا يقبل منه إلّا ببيّنة أنّها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة.
فصل
قال أبو عبيد : هذه الآية عندي أصل لما يفعله الرّفقاء في الأسفار ، فإنّهم يتقاسمون النّفقات بينهم بالسّويّة ، وقد يتفاوتون في قلّة المطعم ، وكثرته ، وليس كلّ من قلّ مطعمه تطيب نفسه بالتّفضّل على رفيقه ، فلمّا كان هذا في أموال اليتامى واسعا ؛ كان في غيرهم أوسع ، ولو لا ذلك لخفت أن يضيّق فيه الأمر على النّاس.
قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) ؛ أي : المفسد لأموالهم من المصلح لها ، يعني : الذي يقصد بالمخالطة الخيانة ، وإفساد مال اليتيم ، وأكله بغير حقّ من الذي يقصد الإصلاح.
وقيل : «يعلم» ضمير من أراد الإفساد ، والطّمع في مالهم بالنّكاح من المصلح ، يعني : إنّكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح ، فإذا لم تريدوا ذلك بقلوبكم ، بل كان المراد منه عرضا آخر [فالله مطّلع](٢) على ضمائركم عالم بما في قلوبكم ، وهذا تهديد عظيم ؛ وذلك لأنّ اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه ، وليس له أحد يراعيها ، فكأنّه تعالى قال : لما لم يكن أحد يتكفّل بمصالحه ، فأنا متكفّل به ، وأنا المطالب لوليّه بذلك.
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٤٣.
(٢) في ب : فاستطلع.