روى طاوس عن ابن عبّاس : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) الذّنب العظيم (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) على الذّنب الصّغير ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١).
قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قد بيّن بقوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أنه كامل الملك والملكوت ، وبيّن بقوله : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أنه كامل العلم والاحاطة ، ثم بيّن بقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أنه كامل القدرة ، مستول على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتّكوين والإعدام ، ومن كان موصوفا بهذه الصّفات ، يجب على كلّ عاقل أن يكون عبدا له منقادا خاضعا لأوامره ونواهيه.
قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(٢٨٥)
في كيفية النّظم وجوه :
الأول : لما بيّن في الآية المتقدّمة كمال الملك والعلم والقدرة له ـ تعالى ـ ، وأنّ ذلك يوجب كمال صفة الرّبوبيّة ، أتبع ذلك ببيان كون المؤمن في نهاية الانقياد والطّاعة والخضوع لله ـ تعالى ـ ، وذلك هو كمال العبوديّة.
الثاني : أنه ـ تعالى ـ لمّا قال : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) وبيّن أنه لا يخفى عليه من سرّنا وجهرنا شيء ألبتّة ، ذكر عقيب ذلك ما يجري مجرى المدح لنا ؛ فقال : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) كأنّه بفضله يقول : عبدي ، أنا وإن كنت أعلم جميع أحوالك ، فلا أذكر منها إلّا ما يكون مدحا لك ، حتى تعلم أنّي الكامل في العلم والقدرة ، فأنا كامل في الجود والرّحمة ، وفي إظهار الحسنات ، وفي السّتر على السّيّئات.
الثالث : أنه بدأ السّورة بمدح المتّقين (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] بيّن في آخر السّورة أنّ الّذين مدحهم في أوّل السّورة هم أمّة محمّد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : «والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله» وهذا هو المراد بقوله في أوّل السّورة : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] ثم قال ههنا : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [البقرة : ٢٨٥]. وهو المراد بقوله في أوّل السّورة : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] ، ثم قال ههنا (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) وهو المراد بقوله أوّل السّورة : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٤] ثم
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١١٤) عن ابن عباس.