حكى عنهم ههنا كيفيّة تضرّعهم في قولهم : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا ...) إلى آخر السّورة ، وهو المراد بقوله أوّل السورة : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥].
فصل في بيان سبب النّزول
قال القرطبيّ (١) : سبب نزول هذه الآية : الآية الّتي قبلها ، وهو قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] فإنه لمّا نزل هذا على النّبيّ صلىاللهعليهوسلم اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأتوا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ثم بركوا على الرّكب ، فقالوا : أي رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : إذ كلّفنا من الأعمال ما نطيق ؛ الصّلاة والصّيام والجهاد ، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ، بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير» فلما قرأها القوم وذلّت بها أنفسهم ، أنزل الله في إثرها (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) إلى قوله : (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلما فعلوا ذلك ، نسخها الله ، فأنزل الله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) قال : نعم ، (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) قال : نعم (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) قال : نعم (وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) قال : نعم أخرجه مسلم ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ (٢).
فصل
معنى قوله : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) : أنه عرف بالدّلائل القاهرة ؛ أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشّرائع والأحكام منزّل من عند الله ـ تعالى ـ ، وليس من إلقاء الشّياطين ولا السّحر والكهانة ، بل بما ظهر من المعجزات على يد جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ.
وقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ) فيه احتمالان :
أحدهما : أنّه يتمّ الكلام عند قوله ـ تعالى ـ (وَالْمُؤْمِنُونَ) ، فيكون المعنى : آمن الرّسول والمؤمنون بما أنزل إليهم من ربّهم ، ثم ابتدأ [بعد] ذلك بقوله : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) والمعنى : كلّ أحد من المذكورين وهم الرّسول والمؤمنون آمن بالله.
والاحتمال الثّاني : أن يتمّ الكلام عند قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) ثم يبتدئ
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٧٥.
(٢) تقدم.