فصل
لما وصفهم بقوله : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ، علمنا أنه ليس المراد منه السّماع الظّاهر ؛ لأن ذلك لا يفيد المدح ، بل المراد : عقلناه وعلمنا صحّته ، وتيقّنا أنّ كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء ـ عليهمالسلام ـ إلينا ، فهو حقّ صحيح واجب قبوله وسمعه ، والسّمع بمعنى القبول والفهم وارد في القرآن ؛ قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : ٣٧] ، المعنى : لمن سمع الذّكرى بفهم حاضر ، وعكسه قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) [لقمان : ٧] ، وقولهم بعد ذلك : «وأطعنا» فدلّ على أنّهم ما أخلّوا بشيء من التّكاليف ، فجمع تعالى بهذين اللّفظين كلّ ما يتعلّق بأحوال التّكاليف علما وعملا.
قوله : «غفرانك» منصوب : إمّا على المصدرية ، قال الزمخشريّ : «منصوب بإضمار فعله ، يقال : «غفرانك ، لا كفرانك» أي : نستغفرك ولا نكفرك» ، فقدّره جملة خبرية ، وهذا ليس مذهب سيبويه (١) ـ رحمهالله ـ ، إنما مذهبه تقدير ذلك بجملة طلبية ؛ كأنه قيل : «اغفر غفرانك» ويستغنى بالمصدر عن الفعل نحو : «سقيا ورعيا» ونقل ابن عطيّة هذا قولا عن الزّجّاج (٢) ، والظاهر أنّ هذا من المصادر اللازم إضمار عاملها ؛ لنيابتها عنه ، وقد اضطرب فيها كلام ابن عصفور (٣) ، فعدّها تارة مع ما يلزم فيه إضمار الناصب ؛ نحو : «سبحان الله ، [وريحانه»] ، و «غفرانك لا كفرانك» ، وتارة مع ما يجوز إظهار عامله ، والطلب في هذا الباب أكثر ، وقد تقدّم في أول الفاتحة نحو من هذا.
وقال الفرّاء : هو مصدر وقع موقع الأمر ، فنصب وهو أولى من قول من يقول : «نسألك غفرانك» لأن هذه الصّيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى ، فقد كانت أدلّ عليه ؛ ونظيره : حمدا وشكرا ، أي : أحمد حمدا وأشكر شكرا.
فإن قيل : إن القوم لما قبلوا التّكاليف ، وعملوا بها ، فأيّ حاجة لهم إلى طلب المغفرة؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أنّهم وإن بذلوا جهدهم في أداء التّكاليف ، فهم خائفون من صدور تقصير ، فلمّا جوّزوا ذلك ، طلبوا المغفرة للخوف من التّقصير.
الثاني : قال ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «[إنّه ليغان] على قلبي ، حتّى أنّي أستغفر الله في اليوم واللّيلة سبعين مرّة» (٤) ، وذكروا لهذا الحديث تأويلات ؛ من جملتها : أنّه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كان يترقّى في
__________________
(١) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١٦٤.
(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ١ / ٣٧٠.
(٣) ينظر : شرح المجمل ١ / ٤٠٧.
(٤) أخرجه مسلم كتاب الذكر ٤١ وأبو داود (١٥١٥) وأحمد (٤ / ٢١١) والبيهقي (٧ / ٥٢) والطبراني في «الكبير» (١ / ٢٨٠) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٢ / ٤٣) والبغوي في تفسيره (٦ / ١٨٠).