جملة العبوديّة ، فكان كلما ترقّى عن مقام إلى مقام أعلى من الأوّل ، رأى الأوّل حقيرا ، فيستغفر الله منه ؛ فكذلك طلب الغفران في هذه الآية.
والمصير : اسم مصدر من صار يصير ، أي : رجع ، وقد تقدّم في قوله : (الْمَحِيضِ) [البقرة : ٢٢٢] أنّ في المفعل من الفعل المعتلّ [العين] بالياء ثلاثة مذاهب ، وهي : جريانه مجرى الصحيح ، فيبنى اسم المصدر منه على مفعل بالفتح ، والزمان والمكان بالكسر ، نحو : ضرب يضرب مضربا ، أو يكسر مطلقا ، أو يقتصر فيه على السّماع ، فلا يتعدّى ، وهو أعدلها ، ويطلق المصير على المعى ، ويجمع على مصران ، كرغيف ورغفان ، ويجمع مصران على مصارين.
فصل
في قوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فائدتان :
إحداهما : أنّهم كما أقرّوا بالمبدإ ؛ فكذلك أقرّوا بالمعاد ؛ لأن الإيمان بالمبدإ أصل الإيمان بالمعاد.
والثانية : أن العبد متى علم أنّه لا بدّ من المصير إليه ، والذهاب إلى حيث لا حكم إلّا حكم الله ـ تعالى ـ ، ولا يستطيع أحد [أن] يشفع إلّا بإذن الله ، كان إخلاصه في الطّاعات أتمّ ، واحترازه عن السّيّئات أكمل.
قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٢٨٦)
قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) : «وسعها» مفعول ثان ، وقال ابن عطية : «يكلّف يتعدّى إلى مفعولين ، أحدهما محذوف ، تقديره : عبادة أو شيئا». قال أبو حيان : «إن عنى أنّ أصله كذا ، فهو صحيح ؛ لأنّ قوله : (إِلَّا وُسْعَها) استثناء مفرّغ من المفعول الثاني ، وإن عنى أنّه محذوف في الصناعة ، فليس كذلك ، بل الثاني هو «وسعها» ؛ نحو : «ما أعطيت زيدا إلّا درهما» ، و «ما ضربت إلّا زيدا» هذا في الصناعة هو المفعول ، وإن كان أصله : ما أعطيت زيدا شيئا إلّا درهما» ، والوسع : ما يسع الإنسان ، ولا يضيق عليه ، ولا يخرج منه.
قال الفرّاء : هو اسم كالوجد والجهد.
وقال بعضهم : الوسع هو دون المجهود في المشقّة ، وهو ما يتّسع له قدرة الإنسان.