وقرأ ابن أبي (١) عبلة : «إلا وسعها» جعله فعلا ماضيا ، وخرّجوا هذه القراءة على أنّ الفعل فيها صلة لموصول محذوف تقديره : «إلّا ما وسعها» وهذا الموصول هو المفعول الثاني ، كما كان «وسعها» كذلك في قراءة العامّة ، وهذا لا يجوز عند البصريّين ، بل عند الكوفيّين ، على أنّ إضمار مثل هذا الموصول ضعيف جدّا ؛ إذ لا دلالة عليه ؛ وهذا بخلاف قول الآخر حيث قال : [الخفيف]
١٣٠٦ ـ ما الّذي دأبه احتياط وحزم |
|
وهواه أطاع يستويان (٢) |
وقال حسّان أيضا : [الوافر]
١٣٠٧ ـ أمن يهجو رسول الله منكم |
|
وينصره ويمدحه سواء (٣) |
وقد تقدّم تحقيق هذا ، وهل لهذه الجملة محلّ من الإعراب ، أم لا؟ الظاهر الثاني ؛ لأنها سيقت للإخبار بذلك ، وقيل : بل محلّها نصب ؛ عطفا على «سمعنا» و «أطعنا» ، أي : وقالوا أيضا : لا يكلّف الله نفسا ، وقد خرّجت هذه القراءة على وجه آخر ؛ وهو أن تجعل المفعول الثاني محذوفا لفهم المعنى ، وتجعل هذه الجملة الفعليّة في محلّ نصب لهذا المفعول ، والتقدير : لا يكلّف الله نفسا شيئا إلا وسعها. قال ابن عطية : وفي قراءة ابن أبي عبلة تجوّز ؛ لأنه مقلوب ، وكان يجوز وجه اللفظ : إلا وسعته ؛ كما قال : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [طه : ٩٨] ، ولكن يجيء هذا من باب «أدخلت القلنسوة في رأسي».
فصل في كيفيّة النّظم
إن قلنا إنّه من كلام المؤمنين ، فإنّهم لمّا قالوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) فكأنّهم قالوا : كيف نسمع ولا نطيع ، وهو لا يكلّفنا إلّا ما في وسعنا وطاقتنا بحكم الرّحمة الإلهيّة.
وإن قلنا : إنه من كلام الله ـ تبارك وتعالى ـ ، فإنّهم لمّا قالوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ثم قالوا بعده : (غُفْرانَكَ رَبَّنا) ، طلبوا المغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التّقصير على سبيل الغفلة [والسّهو ؛ لأنّهم لمّا سمعوا وأطاعوا ، لم يتعمّدوا التّقصير ، فطلبوا المغفرة لما يقع منهم على سبيل الغفلة](٤) ، فلا جرم خفّف الله عنهم ، وقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) والتّكليف : هو إلزام ما فيه كلفة ومشقّة ، يقال : كلّفته فتكلّف.
فصل في بيان مسألة تكليف ما لا يطاق
استدلّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة ونظائرها ؛ كقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
__________________
(١) انظر : الكشاف ١ / ٣٣٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٣٩٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٨١ ، والدر المصون ١ / ٦٩٦.
(٢) تقدم برقم ٨٦٣.
(٣) تقدم برقم ٨٦٧.
(٤) سقط في ب.