ورابعها : أن العبد غير عالم بتفاصيل فعله ؛ لأن من حرّك أصبعه ، لم يعرف عدد الأحيان التي حرّك أصبعه فيها ، ولم يخطر بباله أنه حرّك أصبعه في بعض الأوقات ، وسكن في بعضها وأنّه أين تحرّك وأين سكن ، وإذا لم يكن عالما بتفاصيل فعله ، لم يكن موجدا لها ، وإذا لم يكن موجدا ، لزم تكليف ما لا يطاق.
فصل في تأويل هذه الآية
اختلفوا في تأويل هذه الآية :
فقال ابن عباس (١) وعطاء وأكثر المفسّرين : أراد به حديث النّفس المذكور في قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ).
وروي عن ابن عباس (٢) ؛ أنه قال : هم المؤمنون خاصّة ، وسّع الله عليهم أمر دينهم ، ولم يكلّفهم فيه إلّا ما يطيقونه ؛ كقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، وقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨].
قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) هذه الجملة لا محلّ لها ؛ لاستئنافها ، وهي كالتفسير لما قبلها ؛ لأنّ عدم مؤاخذتها بكسب غيرها ، واحتمالها ما حصّلته هي فقط من جملة عدم تكليفها بما [لا] تسعه ، وهل يظهر بين اختلاف لفظي فعل الكسب معنى ، أم لا؟ فقال بعضهم : نعم ، وفرّق بأنّ الكسب أعمّ ، إذ يقال : «كسب» لنفسه ولغيره ، و «اكتسب» أخصّ ؛ إذ لا يقال : «اكتسب لغيره» ؛ وأنشد قول الحطيئة : [البسيط]
١٣٠٨ ـ ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة |
|
.......... (٣) |
ويقال : هو كاسب أهله ، ولا يقال : مكتسب أهله.
ويقال الزمخشريّ : «فإن قلت : لم خصّ الخير بالكسب ، والشرّ بالاكتساب؟ قلت : في الاكتساب اعتمال ، ولمّا كان الشرّ ممّا تشتهيه النفس ، وهي منجذبة إليه وأمّارة به ، كانت في تحصيله أعمل وآجد ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه ، ولمّا لم تكن كذلك في باب الخير ، وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال».
وقال ابن عطيّة : وكرّر فعل الكسب ، فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام ؛ كقوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ) [الطارق : ١٧] ، قال شهاب الدين : «والذي يظهر لي في هذا : أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلّف ؛ إذ كاسبها على جادّة أمر الله تعالى ،
__________________
(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٧٤.
(٢) ينظر : المصدر السابق.
(٣) صدر بيت وعجزه :
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
ينظر ديوانه (٢٠٨) ، خزانة الأدب ٣ / ٢٩٤ ، الدر المصون ١ / ٦٩٦.