يوجب المحذور ، أولى إذا سلّمنا أنّ لفظ المحيض مشترك بين الموضع ، وبين المصدر.
فإن قيل : الدّليل على أنّ المراد من المحيض الحيض قوله : (قُلْ هُوَ أَذىً) ، ولو كان المراد الموضع لما صحّ هذا الوصف.
قلنا : بتقدير أن يكون المحيض عبارة عن الحيض ، فالحيض نفسه ليس بأذى لأن «الحيض» عبارة عن الدّم المخصوص ، و «الأذى» كيفيّة مخصوصة وهو عرض ، والجسم لا يكون نفس العرض فلا بدّ أن يقولوا : المراد منه أنّ الحيض موصوف بكونه أذى ، وإذا جاز ذلك فيجوز لنا أيضا أن نقول : إنّ المراد منه أنّ ذلك الموضع ذو أذّى ، وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد بالمحيض الأوّل الحيض ، وبالمحيض الثّاني موضع الحيض كما تقدّم وعلى هذا فيزول الإشكال.
فصل في بيان مغالاة اليهود وغيرهم في أمر الحيض
عن أنس بن مالك أنّ اليهود ، والمجوس كانوا يبالغون في التّباعد عن المرأة حال حيضها ، والنّصارى كانوا يجامعوهنّ ولا يبالون بالحيض ، وأنّ أهل الجاهليّة كانوا يقولون مثل قول اليهود ، والمجوس ، وكانوا إذا حاضت المرأة ؛ لم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجالسوها على فراش ، ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس ، فسئل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، فأخذ المسلمون بظاهر الآية ، فأخرجوهنّ من بيوتهن ، فقال ناس من الأعراب : يا رسول الله البرد شديد ، والثّياب قليلة ، فإن آثرناهن بالثّياب ، هلك سائر أهل البيت ، وإن استأثرناها هلكت الحيض ، فقال عليه الصّلاة والسّلام : «إنّما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ولم آمركم بإخراجهنّ من بيوتهنّ كفعل الأعاجم» فلمّا سمع اليهود ذلك قالوا : هذا الرّجل يريد ألّا يدع شيئا من أمرنا ، إلّا خالفنا فيه. فجاء أسيّد بن حضير وعباد بن بشر إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقالا : يا رسول الله إنّ اليهود تقول كذا وكذا ، أفلا ننكحهنّ في المحيض ، فتغير وجه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حتّى ظننا أنّه غضب عليهما ، فخرجا ؛ فجاءته هديّة من لبن ، فأرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يغضب عليهما (١).
__________________
(١) أخرجه مسلم كتاب الحيض (٣٠٢) باب : جواز غسل الحائض رأس زوجها والترمذي (٢٩٨١) وأبو داود (٢٥٨) والنسائي (٢٨٩) وابن ماجه (٦٤٤) وأحمد (٣ / ١٣٢ ـ ١٣٣) والطيالسي (١٩٣٣) والبغوي في «شرح السنة» (٣١٤) وأبو عوانة (١ / ٣١١) والبيهقي (١ / ٣١٣) وابن حبان (١٣٥٢) وأبو يعلى (٦ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩) رقم (٣٥٣٣).
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٦١) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه.