فصل في حرمة جماع الحائض
اتّفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض ، واختلفوا في وجوب الكفّارة (١) على من جامع فيه ، فذهب أكثرهم إلى أنّه لا كفّارة عليه فليستغر الله ويتوب ، وذهب قوم إلى وجوب الكفّارة عليه ؛ منهم : قتادة والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، لما روى ابن عبّاس أن النّبيّ صلىاللهعليهوسلم قال في رجل جامع امرأته وهي حائض «إن كان الدّم عبيطا ؛ فليتصدّق بدينار ، وإن كان صفرة ، فنصف دينار» (٢) وروي موقوفا على ابن عبّاس (٣). واتّفقوا على أنّ جلّ الاستمتاع فيما فوق السّرّة ، ودون الرّكبة [واختلفوا بأنّه هل يجوز الاستمتاع بها فيما دون السّرة ، وفوق الرّكبة؟](٤) قال ابن الخطيب (٥) : إن فسّرنا المحيض بموضع الحيض ، كانت الآية دالّة على تحريم الجماع فقط ، فلا يكون فيها دلالة على تحريم غيره ، بل نقول : إنّ تخصيص الشّيء بالذّكر يدلّ على أنّ الحكم فيما عداه بخلافه ، وإن فسّرنا المحيض بالمحيض ، كان تقدير الآية فاعتزلوا النّساء في زمان المحيض ، وترك العمل بها فيما فوق السّرّة ودون الرّكبة ؛ فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة.
قوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) ، أي : لا تجامعوهنّ.
قال ابن العربيّ : سمعت الشّاشيّ (٦) يقول : إذا قيل «لا تقرب» ـ بفتح الرّاء ـ كان معناه : لا تتلبّس بالفعل ، وإذا كان بضمّ الرّاء كان معناه : لا تدن منه ، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) فهذا نهي عن المباشرة في موضع الدّم ، وقوله :
__________________
(١) الكفارات جمع مفرده كفارة ، وهي في الأصل صفة مبالغة ؛ كعلامة ، ثم غلب استعمالها اسما فيما يستر الذنب ويمحوه ، وهذه المادّة في اللغة تنبئ عن الستر ؛ لأنها مأخوذة من الكفر «بفتح الكاف» ومعناه : الستر ومنه سمي الليل كافرا ؛ لأنه يستر الشيء بظلمته قال الشاعر : «في ليلة كفر النجوم غمامها».
وسمي الزارع كافرا ؛ لأنه يستر البذر بالتراب ، وسميت الأشياء المصطلح عليها في الشريعة «كفارات» لأنها تستر الذنب وتمحو أثره.
تعريفها شرعا :
وهي في اصطلاح الفقهاء : اسم لأشياء مخصوصة طلبها الشارع عند ارتكاب مخالفات معينة. وقد عرفها الرحماني من الشافعية فقال : هي مال أو صوم وجب بسبب.
(٢) أخرجه أبو داود (٢٦٤) والنسائي (١ / ٥٥ ، ٦٦ ـ ٦٧) وابن ماجه (٦٤٠) والدارمي (١ / ٢٥٤) وابن الجارود (٥٨) والحاكم (١ / ١٧١ ـ ١٧٢) والبيهقي (١ / ٣١٤) وأحمد (١ / ٢٣٠ ، ٢٣٧ ، ٢٧٢ ، ٢٨٦ ، ٣١٢ ، ٣٢٥).
قال أبو داود : هكذا الرواية الصحيحة دينار أو نصف دينار.
(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٩٧.
(٤) سقط في ب.
(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥٨.
(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٥٩.