والثاني : أن تكون بمعنى «في» ، أي : في المكان الذي نهيتم عنه في الحيض.
قال ابن عبّاس ، ومجاهد وإبراهيم ، وقتادة وعكرمة : فأتوهنّ في المأتى ؛ فإنّه هو الذي أمر الله به (١) ولا تأتوهنّ في غير المأتى ؛ لقوله : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أي : في حيث أمركم الله ؛ كقوله : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة : ٩] ، أي : في يوم الجمعة ، وقوله: (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [فاطر : ٤٠] ، أي : في الأرض. ورجّح هذا بعضهم ، وفي الكلام حذف ، تقديره : «أمركم الله بالإتيان منه» يعني : أنّ المفعول الثّاني حذف للدلالة عليه.
قال الأصمّ والزّجّاج (٢) : فأتوهنّ بحيث يحلّ لكم غشيانهنّ ، وذلك بأن لا يكنّ صائمات ، ولا معتكفات ، ولا محرمات.
وقال محمّد بن الحنفيّة (٣) : فأتوهنّ من قبل الحلال دون الفجور. والأقرب : قول ابن عباس ، ومن تابعه ؛ لأن لفظة «حيث» حقيقة في الكلّ ، مجاز في غيرها.
فصل
قال أبو العبّاس المقري : ترد «من» بمعنى «في» كهذه الآية ، وتكون زائدة ؛ كقوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [نوح : ٤] ، وقوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) [الشورى : ١٣] أي : الدّين ، وقوله : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) [يوسف : ١٠١] ، أي الملك. وبمعنى «الباء» ؛ قال تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) [غافر : ١٥] ، أي : بأمره ، وقوله : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١] ، أي : بأمر الله ، وقوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) [النبأ : ١٤] ، أي : بالمعصرات ، وبمعنى «على» ؛ قال تعالى : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) [الأنبياء : ٧٧] ، أي : على القوم.
قال القرطبيّ (٤) : عبّر عن الوطء هنا بالإتيان.
قوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) التّوّاب : هو المكثر من فعل ما يسمّى توبة ، وقد يقال : هذا في حقّ الله ـ تعالى ـ ؛ من حيث إنه يكثر من قبول التّوبة.
فإن قيل : ظاهر الآية يدلّ على أنّه يحبّ تكثير التّوبة مطلقا ، والعقل يدلّ على أن التّوبة لا تليق إلّا بالمذنب ، فمن لم يكن مذنبا ، لا تجب منه التّوبة.
فالجواب من وجهين :
الأول : أن المكلّف لا يأمن البتّة من التّقصير.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٨٨ ـ ٣٨٩) عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦٠.
(٣) ينظر : المصدر السابق.
(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٦٠.