والصلاة [والسلام] على خير من أوحى إليه حبيب الله أبى القاسم ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ؛ ذى اللواء المرفوع في بنى لؤىّ. وذى الفرع المنيف في عبد مناف بن قصّى ؛ المثبت بالعصمة ، المؤيد بالحكمة ، الشادخ (١) الغرّة الواضح التحجيل ، النبىّ الأمىّ المكتوب في التوراة والإنجيل ؛ وعلى آله الأطهار ، وخلفائه من الأختان والأصهار ، وعلى جميع المهاجرين والأنصار.
اعلم أنّ متن كلّ علم وعمود كل صناعة ـ طبقات العلماء فيه متدانية ، وأقدام الصناع فيه متقاربة أو متساوية ، إن سبق العالم العالم لم يسبقه إلا بخطإ يسيرة ، أو تقدّم الصانع الصانع لم يتقدّمه إلا بمسافة قصيرة وإنما الذي تباينت فيه الرتب ، وتحاكت فيه الركب ، ووقع فيه الاستباق والتناضل ، وعظم فيه التفاوت والتفاضل ، حتى انتهى الأمر إلى أمد من الوهم متباعد ، وترقى إلى أن عدّ ألف بواحد ـ ما في العلوم والصناعات من محاسن النكت والفقر ، ومن لطائف معان يدق فيها مباحث للفكر ، ومن غوامض أسرار ، محتجبة وراء أستار ، لا يكشف عنها من الخاصة إلا أوحدهم وأخصهم ، وإلا واسطتهم وفصهم ، وعامتهم عماة عن إدراك حقائقها بأحداقهم عناة في يد التقليد لا يمنّ عليهم بجزّ نواصيهم وإطلاقهم
ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح ، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح (٢) ؛ من غرائب نكت يلطف مسلكها ، ومستودعات أسرار يدق سلكها ؛ علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذى علم ، كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن ؛ فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام ، والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام ، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرّية أحفظ ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ ؛ والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه ، واللغوي وإن علك اللغات بقوّة لحييه ؛ لا يتصدّى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق ؛ إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن ، وهما علم المعاني وعلم البيان ؛ وتمهل في ارتيادهما آونة ، وتعب في التنقير عنهما أزمنة ، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله ، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله ؛ بعد أن يكون آخذاً من سائر العلوم بحظ ، جامعا بين أمرين تحقيق وحفظ ؛ كثير المطالعات ، طويل المراجعات ؛ قد رجع زمانا ورجع إليه ، وردّ وردّ عليه ؛ فارسا في علم الإعراب ، مقدّما في حملة الكتاب ؛ وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها ، مشتعل القريحة وقادها ؛ يقظان النفس درّاكا للمحة وإن لطف
__________________
(١) قوله «الشادخ الغرة» في الصحاح : شدخت الغرة ، إذا اتسعت. (ع)
(٢) قوله «بما يبهر الألباب القوارح» في الصحاح : قرح الجافر ، إذا انتهت أسنانه ، وكل ذى حافر يقرح ، وكل ذى خف يبزل. (ع)