اتصل قوله (لِمَنْ أَرادَ) بما قبله؟ قلت : هو بيان لمن توجه إليه الحكم ، كقوله تعالى : (هَيْتَ لَكَ) لك بيان للمهيت به ، أى هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع. وعن قتادة : حولين كاملين ، ثم أنزل الله اليسر والتخفيف فقال (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) أراد أنه يجوز النقصان ، وعن الحسن : ليس ذلك بوقت لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر. وقيل : اللام متعلقة بيرضعن ، كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، أى يرضعن حولين لمن أراد أن يتمّ الرضاعة من الآباء ، لأنّ الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه ، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه. ولا يجوز استئجار الأم عند أبى حنيفة رحمه الله ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح. وعند الشافعي يجوز. فإذا انقضت عدّتها جاز بالاتفاق. فان قلت : فما بال الوالدات مأمورات بأن يرضعن أولادهنّ؟ قلت : إما أن يكون أمراً على وجه الندب ، وإما على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبى إلا ثدي أمه ، أو لم توجد له ظئر ، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار. وقيل : أراد الوالدات المطلقات ، وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) وعلى الذي يولد له وهو الوالد. و (لَهُ) في محل الرفع على الفاعلية ، نحو (عَلَيْهِمْ) في : (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فإن قلت لم قيل (الْمَوْلُودِ) له دون الوالد. قلت : ليعلم أنّ الوالدات إنما ولدن لهم ، لأن الأولاد للآباء ، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات. وأنشد للمأمون بن الرشيد :
فَإنَما أُمَّهَاتُ النَّاسِ أوْعِيَةٌ |
|
مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أبْنَاءُ (١) |
فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم ، كالأظآر. ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) ، (بِالْمَعْرُوفِ) تفسيره ما يعقبه ، وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارّا. وقرئ (لا تكلف) بفتح التاء ؛ و (لا نكلف) بالنون. وقرئ : (لا تُضَارَّ) بالرفع على
__________________
(١) لا تزرين بفتى من أن يكون له |
|
أم من الروم أو سوداء عجماء |
فإنما أمهات الناس أوعية |
|
مستودعات وللآباء أبناء |
للمأمون بن الرشيد حين كتب إليه أخوه الأمين يوبخه على الخلافة بغير استحقاق ، وفي آخره : ابن الأمة ما ألأمه : فأجابه بذلك. وأزرى به : إذا أوقع به العيب ورماه به. والنون في الفعل للتوكيد. ويروى : لا تزدرين فتى ، على خطاب المؤنثة ، وكأنه أراد به إسماع أخيه. وزرى عليه : إذا عاب عليه. والازدراء : افتعال منه ، أى لا تعيبى ، والنون ثابتة بعد النهى شذوذا. والعجماء : التي لا تفصح في كلامها. وشبه النساء بالأوعية التي تودع فيها الأشياء تشبيها بليغا ، أو على طريق التصريحية على رأى السعد في كل تشبيه بليغ. وروى : وللأبناء آباء. والمعنى أن الرفعة والضعة من جهة الآباء لا من جهة الأمهات ، لأنها كالأوعية للأبناء. لكن هذا التشبيه مبنى على الظاهر. ثم كتب المأمون أيضا في جواب أخيه : القلم بمده ، والسيف بحده ، والمرء بسعده ، لا بأبيه ولا يجده.