القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل ، ولناصره على الأوّل أن يقول : إن القرآن إنما نزل بلسان العرب مصبوبا في أساليبهم واستعمالاتهم ، والعرب لم تتجاوز ما سموا به (١) مجموع اسمين ، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة ، والقول بأنها أسماء السور حقيقة : يخرج إلى ما ليس في لغة العرب ، ويؤدّى أيضاً إلى صيرورة الاسم والمسمى واحداً. فإن اعترضت عليه بأنه قول مقول على وجه الدهر وأنه لا سبيل إلى ردّه ، أجابك بأن له محملا سوى ما يذهب إليه ، وأنه نظير قول الناس : فلان يروى : قفا نبك ، وعفت الديار. ويقول الرجل لصاحبه : ما قرأت؟ فيقول (الحمد لله) و (براءة من الله ورسوله) و (يوصيكم الله في أولادكم) و (الله نور السماوات والأرض). وليست هذه الجمل بأسامى هذه القصائد وهذه السور والآي ، وإنما تعنى رواية القصيدة التي ذاك استهلالها ، وتلاوة السورة أو الآية التي تلك فاتحتها. فلما جرى الكلام على أسلوب من يقصد التسمية ، واستفيد منها ما يستفاد من التسمية ، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة. وللمجيب عن الاعتراضين على الوجه الأول أن يقول : التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستنكرة لعمري وخروج عن كلام العرب ، ولكن إذا جعلت اسما واحداً على طريقة حضر موت ، فأما غير مركبة منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار فيها ؛ لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية ، كما سموا : بتأبط شراً ، وبرق نحره ، وشاب قرناها. وكما لو سمى : بزيد منطلق ، أو بيت شعر. وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر ، وبين التسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم ، دلالة قاطعة على صحة ذلك. وأما تسمية السورة كلها بفاتحتها ، فليست بتصيير الاسم والمسمى واحداً ، لأنها تسمية مؤلف بمفرده ، والمؤلف غير المفرد. ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفاً منه ومن حرفين مضمومين إليه ، كقولهم : صاد ، فلم يكن من جعل الاسم والمسمى واحداً حيث كان الاسم مؤلفاً والمسمى مفرداً. الوجه الثالث : أن ترد السور مصدرة بذلك ليكون أوّل ما يقرع الأسماع مستقلا بوجه من الإعراب ، وتقدمة من دلائل الإعجاز. وذلك أنّ النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام : الأميون منهم وأهل الكتاب ، بخلاف النطق بأسامى الحروف ، فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم ، وكان مستغرباً مستبعداً من الأمى التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة ، كما قال عز وجل : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ). فكان حكم النطق بذلك
__________________
(١) قوله «لم تتجاوز ما سموا به» لعله : بما ، أو لعله : فيما. (ع)