قتيلا ومريضاً وضالا. ومنه قوله تعالى : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ، أى صائراً إلى الفجور والكفر. فإن قلت : فهلا قيل هدى للضالين؟ قلت : لأن الضالين فريقان : فريق علم بقاؤهم على الضلالة وهم المطبوع على قلوبهم ، وفريق علم أنّ مصيرهم إلى الهدى ؛ فلا يكون هدى للفريق الباقين على الضلالة ، فبقى أن يكون هدى لهؤلاء ، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل : هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال ، فاختصر الكلام باجرائه على الطريقة التي ذكرنا ، فقيل : هدى للمتقين. وأيضاً فقد جعل ذلك سلما إلى تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني ، بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده.
والمتقى في اللغة اسم فاعل ، من قولهم : وقاه فاتقى. والوقاية : فرط الصيانة. ومنه : فرس واق ، وهذه الدابة تقى من وجاها ، إذا أصابه ضلع (١) من غلظ الأرض ورقة الحافر ، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. واختلف في الصغائر (٢) وقيل الصحيح أنه لا يتناولها ، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر. وقيل : يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال ، والمتقى لا يطلق إلا عن خبرة ، كما لا يجوز إطلاق العدل إلا على المختبر.
ومحل (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) الرفع ، لأنه خبر مبتدإ محذوف ، أو خبر مع (لا رَيْبَ فِيهِ) لذلك ، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدّم خبراً عنه. ويجوز أن ينصب على الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف. والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً ، وأن يقال إن قوله : (الم) جملة برأسها ، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها. و (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة ثانية. و (لا رَيْبَ فِيهِ) ثالثة. و (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) رابعة.
__________________
(١) قوله «من وجاها إذا أصابه ضلع» في الصحاح : الوجي : الوجع في الحافر. والضلع : الميل والاعوجاج : والظلع : غمز في مشية البعير. (ع)
(٢) قال محمود رحمه الله : «واختلف في الصغائر ... الخ». قال أحمد رحمه الله : ومن تمنى القدرية على الله تعالى اعتقادهم أن الصغائر ممحوة عنهم ما اجتنبوا الكبائر ، وأنه يجب أن يعفو الله عنها لمجتنب الكبائر ، كما يجب عندهم أن لا يعفو عن مرتكب الكبائر ، وهذا هو الخطأ الصراح ، والمحادة لآيات الله البينات وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم الصحاح. والحق أن غفران الصغائر ـ وإن اجتنبت الكبائر ـ موكول إلى المشيئة ، كما أن غفران الكبائر موكول إليها أيضا. ومن لا يعتقد ذلك وهم القدرية يضطرون إلى الوقوف عند قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فانه ناطق بالمؤاخذة بالصغائر. ويتحيرون عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) فانه مصرح بمغفرة الكبائر. أما أهل السنة فقد ألفوا بين هاتين الآيتين بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فان التقييد بالمشيئة في هذه يقضى على الآيتين المطلقتين.