وإدخال الهوان والحقارة عليه ، والاشتقاق كما ذكرنا شاهد لذلك. وقد كثر التهكم في كلام الله تعالى بالكفرة. والمراد به تحقير شأنهم وازدراء أمرهم ، والدلالة على أن مذاهبهم حقيقة بأن يسخر منها الساخرون ويضحك الضاحكون. ويجوز أن يراد به ما مر في : (يُخادِعُونَ) من أنه يجرى عليهم أحكام المسلمين في الظاهر ، وهو مبطن بادخار ما يراد بهم ، وقيل : سمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ، (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ). فإن قلت : كيف ابتدئ قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ولم يعطف على الكلام قبله (١). قلت : هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة. وفيه أن الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ ، الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء ولا يؤبه له في مقابلته ، لما ينزل بهم من النكال ويحل بهم من الهوان والذل. وفيه أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين ، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله. فان قلت : فهلا قيل الله مستهزئ بهم ليكون طبقا لقوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (٢) قلت : لأن (يستهزئ) يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتا بعد وقت ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم وبلاياه النازلة بهم (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) وما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار ، ونزول في شأنهم واستشعار حذر من أن ينزل فيهم (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) ، (قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ). (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) من مدّ الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره. وكذلك مدّ الدواة وأمدها : زادها ما يصلحها. ومددت السرج والأرض : إذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومده الشيطان في الغى وأمده : إذا واصله بالوساوس حتى يتلاحق غيه ويزداد انهما كافيه. فإن قلت : لم زعمت أنه من المدد دون المد في العمر والإملاء والإمهال؟ قلت : كفاك دليلا على أنه من المدد دون المد قراءة ابن كثير وابن محيصن : (وَيَمُدُّهُمْ) ، وقراءة نافع : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ) على أن الذي بمعنى أمهله
__________________
(١) قال محمود رحمه الله : «إن قلت : كيف ابتدئ قوله : الله يستهزئ بهم ولم يجعله معطوفا ... الخ»؟ قال أحمد رحمه الله : فان قال قائل : أفلا يستفاد هذا المعنى من العطف؟ قيل له : لو عطف لأشعر بأن الغرض كل الغرض اجتماع مضمون الجملتين وإعراض عن هذا المعنى الذي ينفرد به الاستئناف
(٢) قال محمود رحمه الله : «فان قلت : فهلا قيل الله مستهزئ بهم ... الخ»؟ قال أحمد رحمه الله : ولهذا الفرق بين الفعل والاسم ورد قوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) لما كان التسبيح من الطوائد متكرراً متجدداً شيئاً فشيئا وحشر الطير معه أمر دائم ، ذكر التسبيح بصيغة الفعل ، والحشر بصيغة الاسم. وسيأتى إن شاء الله تعالى مزيد تقرير فيه.