فصل
قال الرّبيع بن أنس : إن زكريا كان إذا خرج من عندها غلق عليها سبعة أبواب ، فإذا دخل عليها غرفتها وجد عندها رزقا ـ أي : فاكهة في غير حينها ـ فاكهة الصّيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، فيقول يا مريم ، أنى لك هذا (١)؟
قال أبو عبيدة : معناه من أين لك هذا ، وأنكر بعضهم عليه وقال : معناه من أي جهة لك هذا ؛ لأن أنّى للسؤال عن الجهة ، وأين للسؤال عن المكان.
فصل
احتجوا على صحة القول بكرامات الأولياء بهذه الآية ؛ فإنّ حصول الرزق عندها إمّا أن يكون خارقا للعادة أو لا يكون ، فإن كان غير خارق للعادة ، فذلك باطل من خمسة أوجه :
الأول : أنه على هذا التقدير لا يكون ذلك الرزق عند مريم دليلا على علوّ شأنها ، وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصّيّة ، وهو المعنى المراد من الآية.
الثاني : قوله : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) والقرآن دلّ على أنه كان آيسا من الولد ؛ بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته ، فلما رأى خرق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد ، فيستقيم قوله : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ). ولو كان الذي شاهده في حق مريم غير خارق لم تكن مشاهدة ذلك سببا لطمعه في انخراق العادة له بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر.
الثالث : تنكير الرزق في قوله : «رزقا» فإنه يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل : رزق وإنه رزق عجيب فلولا أنه خارق للعادة لم يفد الغرض اللائق بسياق الآية.
الرابع : أنه ـ تعالى ـ قال : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ٣١] ولو لا أنه ظهر عليها الخوارق وإلا لم يصح ذلك.
الخامس : تواتر الروايات على أن زكريا ـ عليهالسلام ـ كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها الصلاة والسلام كان خارقا للعادة ، وإذا ثبت ذلك فنقول : إمّا أنه كان معجزة لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك ، والأول باطل ؛ لأن النبيّ الموجود في ذلك الزمان زكريا ـ عليهالسلام ـ ولو كان ذلك معجزة له لكان عالما بحاله ، ولم يشتبه أمره عليه ، ولم يقل ل «مريم» أنّى لك هذا؟ وأيضا فقوله (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) مشعر بأنه لما سألها ذكرت له أن ذلك من عند الله ، فهنالك طمع في انخراق العادة في حصول الولد من المرأة الشيخة
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٥٥) عن الربيع بن أنس.