وإذا ثبت ذلك فقوله : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي) معناه : قومي ، وقوله : (وَاسْجُدِي) أمر ظاهر بالصلاة حال الانفراد ، وقوله : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمر بالخضوع ، والخشوع بالقلب.
الخامس : لعلّ السجود في ذلك الدين كان متقدّما على الركوع. فإن قيل : لم لم يقل : واركعي مع الراكعات؟
فالجواب : لأن الاقتداء بالرجل ـ حال الاختفاء من الرجال ـ أفضل من الاقتداء بالنساء.
وقيل : لأنه أعم وأشمل.
قال المفسّرون : لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات ـ شفاها ـ لمريم قامت في الصّلاة ، حتى تورمت قدماها ، وسالت دما وقيحا.
وقوله : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) قيل : معناه : افعلي كفعلهم.
وقيل : المراد به الصلاة الجامعة.
قوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ) يجوز فيه أوجه :
أحدها : أن يكون «ذلك» خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : الأمر ذلك. و (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) ـ على هذا ـ يجوز أن يكون من تتمة هذا الكلام ، حالا من اسم الإشارة ، ويجوز أن يكون الوقف على «ذلك» ويكون (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) متعلقا بما بعده ، وتكون الجملة من «نوحيه» ـ إذ ذاك ـ إما مبيّنة وشارحة للجملة قبلها ، وإما حالا.
الثاني : أن يكون «ذلك» مبتدأ ، و (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) خبره ، والجملة من «نوحيه» مستأنفة ، والضمير من «نوحيه» عائد على الغيب ، أي : الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار ، ولذلك أتى بالمضارع في «نوحيه». وهذا أحسن من عوده على «ذلك» ؛ لأن عوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص ، وما لم يتقدم منها ، ولو أعدته على «ذلك» اختص بما مضى وتقدم.
الثالث : أن يكون «نوحيه» هو الخبر و (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) على وجهيه المتقدمين من كونه حالا من ذلك ، أو متعلقا ب «نوحيه».
ويجوز فيه وجه ثالث ـ على هذا ـ وهو أن يجعل حالا من مفعول «نوحيه» ، أي : نوحيه حال كونه بعض أنباء الغيب.
فصل
الإنباء هو الإخبار عما غاب عنك ـ والإيحاء ، ورد بإزاء معان مختلفة ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة.